
بقلم خالد صالح
إن كان ثمّة “جملة” واحدة كفيلةٌ بشرح ما حدث يوم الأحد في لبنان، فهي ليست مقتصرة فقط على “تشييع مهيب” للأمين العام لحزب الله السيد الشهيد حسن نصرالله، بل نهاية “حقبة” والتمهيد لـ “حقبة أخرى” مختلفة تمامًا عن سابقتها كي لا نقول “لا تشبهها” أبدًا، والصورة التي طبعت لبنان لثلاثين سنة ونيّف دُفنت في جوار “الضريح” ..
انقضى يوم التشييع بسلام وعبّرت الحشود الغفيرة عن “حزنها” على خسارة ثقيلة ليس من السهل تعويضها في المدى المنظور، خسارة ستحتّم على حزب الله إعادة النظر في الكثير من استراتيجياته سواء الداخلية أو الاقليمية، وهذا ما تلمسّناه في كلمة الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، وصار من الجائز قولًا، ما بعد الثالث والعشرين من شباط ليس كما قبله، وصار لزامًا على الحزب التعايش مع المنحى الجديد للعمل السياسي في لبنان، طالما أن “احتكار” فكرة المقاومة لم يعد يملك “وكالتها” المطلقة .
اليوم ثمّة أسئلة تدور رحاها محدثة ضجيجًا ستتكشف أبعاده لاحقًا، أبرزها، متى يعود حزب الله نهائيًا إلى لبنان؟، وهل بدأ لبنان “الدولة” باستعادة حزب الله؟، هل سيكون لبنان على عتبة تبدلات كبيرة تجعله يطوي صفحات قاسية يريد فعليًا أن يودعها في صفحات التاريخ؟، أم هل ستبقى المراوحة القائمة حاليًا هي سيدة الموقف رغم نتائجها “المرّة” سواء على لبنان عمومًا وعلى حزب الله خصوصًا ؟.
واقع جديد
مخطىءٌ تمامًا من يظنّ أن حزب الله مع “السيّد” هو نفسه من دونه، سواء وافقته على سياسته أو عارضته عليها، إذ ليس من السهل تكرار شخصية قيادية بحجمه ودوره ومكانته في وجدان محازبيه ومحبيه، إضافة إلى أن التطورات الدقيقة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط ولبنان ضمنًا، تُحتم تبدلًا في مسار التعاطي الذي سينتهجه حزب الله في قادم الأيام، وبات مضطرًا لـ “عودة” خالصة إلى الكنف اللبناني متحرّرًا من إرتباطات إقليمية، حتى وإن كانت عقائديته تفرض هذا الارتباط، فالحقيقة شيء والواقع شيء آخر ..
الواقع يقول أن حزب الله “مكوّن” أساسي من مكوّنات البلاد، لكن لايمكن له أن يفرض خياراته على الآخرين بـ “القوة” و “فائضها” أحيانًا، والواقع يقول أن على حزب الله أن يلعب دوره المنوط به في سبيل تعزيز مفهوم “الدولة” عبر الأطر السياسية بمعزل عن “أجندات” مرسومة له من خارج الحدود ولا تتناسب مع تركيبة لبنان، والواقع يقول أن “تأطير” الانجازات السابقة التي حققتها “المقاومة” يجب أن يتفاعل “كيميائيًا” مع محيطها القائمة فيه، لا أن تكون “زيتًا” لا يمكنه الاختلاط بـ “الماء” اللبناني .
حزب الله أمام مشهدية مختلفة، كثير من الأمور تبدلت 180 درجة منذ الثامن من تشرين الأول 2023 وتبدلّت بشكل حاد أيضًا منذ الثالث والعشرين من أيلول 2024 لتصل إلى ذروة هذا التبدل في السابع والعشرين منه، وبدأت تتضح معالمها منذ الأحد الماضي، ومهما كانت القدرة التنظيمية لحزب الله متماسكة وصلبة فإن غياب السيّد عن تفاصيلها مع ما استتبع هذا الغياب من تطورات هزّت المنطقة خصوصًا ما حدث في سوريا، يفرض على القيادة الجديدة أن تتعايش مع واقعها الداخلي بلا “عراضات” وأن تنزل عن الشجرة التي بقيت عليها طويلًا ..
القاسم المشترك
على المقلب الآخر لابد من ملاقاة خطوات حزب الله الداخلية بإيجابية، في لبنان لاقدرة لأي طرف على إلغاء الآخر، فلكل فريق شارعه العريض ومحازبيه ومناصريه وحيثيته السياسية سواء داخل السلطة أو خارجها، وتبقى “الدولة” هي القاسم المشترك الذي تلتقي فيه الأطراف في المنتصف تمامًا، وما أعلنه الشيخ نعيم قاسم في خطاب التشييع كفيل بأن يُمهّد الطريق نحو هذه الملاقاة، الطائف والدستور والدولة ومؤسساتها هي الضمانة الوحيدة، وأن يتخلى الجميع عن لغة “الاستكبار والاستعلاء والاستقواء” التي لن تنفع أحدًا سوى بجرّ البلاد إلى أتون صراعات وانقسامات نحن بغنىً عنها .
وكم كان كلام رئيس الجمهورية أمام الوفد الإيراني واضحًا “لبنان تعب من حروب الآخرين على أرضه، وأفضل مواجهة لأي خسارة أو عدوان هي وحدة اللبنانيين”، هذا الموقف الذي يأتي في سياق ما أطلقه في خطاب القسم، بالإضافة إلى ما يسعى إليه رئيس الحكومة لتثبيت “التضامن الحكومي”، تجعل الطريق أمام حزب الله سالكًا للعودة إلى لبنان، وللدولة أن تستعيد حزب الله بالكامل، ومدّ الجسور الحقيقية بين ابناء البلد الواحد لتحصين ساحتنا الداخلية أمام ما يكمنه العدو لنا عند كل مفترق .
لم يكن تشييع السيد الشهيد حسن نصرالله مجرد تكريم كبير لقيادي كبير طبع الواقع اللبناني كثيرًا على مدى ثلاثة عقود ونيف، بل هو “إشعار” واضح لمسار مختلف على حزب الله البدء به، وإن كان قد نجح في “الاستفتاء” فالباقي يتطلّب قراءة منطقية وعقلانية لإتاحة المجال أمام قيام “الدولة” التي يتطلّع إليها الجميع، خصوصًا أمام ملفّات كبيرة من ضمنها إعادة إعمار ما تسبّب به العدوان الإسرائيلي، والأمر مرهون بما سيفعله حزب الله مستقبلًا .. فهل يفعل ؟.