بقلم: جوزاف وهبة

يبدو أنّه كما لصيد الطيور مواسمها الوفيرة حيث يكثر الصيّادون ويستبيحون الأحراش والأشجار والسموات بحثاً عن طرائدهم،. كذلك هناك “مواسم” للقتل تتكاثر فيها الجرائم، لسبب أو دون سبب، دونما فهم أو تفسير لهذه الظاهرة التي تتكرّر كلّ سنة مع قدوم شهر رمضان المبارك، رغم ما يستدعيه من تقوى وسلام وسجود وإيمان، فيستبيح البعض فضائل الشهر، كما هو حاصل في العشر الأوّل. حيث تجاوز عدد القتلى والضحايا عدد أيّامه، وربّما جاور عدد الجرحى عدد ساعات هذه الأيّام!
لا تفسير واضح أو منطقي لهذا العنف غير المشروع:أهو نقص في النيكوتين والكافيين، أم هو احتشاد الناس واكتظاظهم في الشوارع والطرقات والساحات. أم هو مجرّد مصادفة من علامات ضعف هيبة الدولة، وبالأخصّ المؤسّسات الأمنيّة، مع العلم بأنّ رئيس الجمهورية الجديد قد بات على رأس جميع القوى المسلّحة، بعد أن كان في قيادة المؤسّسة الأمنيّة الأم / مؤسّسة الجيش؟
قد تتشعّب الإجابات، ولكن ثمّة حقيقة مؤلمة ثابتة هي أنّ الفوضى الأمنيّة في مدينة طرابلس (والجوار..وصولاً إلى عكار).باتت فائضة وجارحة بعد أن شملت مختلف الأحياء والمناطق دون إستثناء:
في البداوي، سقط أخصّائي أسنان من المنية كلّ ذنبه أنّه عابر سبيل في الوقت القاتل حيث أصابت رأسه رصاصة مسلّحين تطاردهم دوريّة عسكريّة..
في المنكوبين إشتباك مسلّح تقليدي بين العائلة الواحدة أودى بحياة أحد أفرادها..
في بحنين طعنة سكّين كانت كافية للفتك بحياة شاب..
في شارع الجمّيزات قتيل إثر خلاف طارئ بين أصحاب مولّد كهربائي وعناصر مكتب الحزب القومي المتواجد في الحيّ المذكور (لماذا يصرّ القوميون على افتتاح مكتب لهم في مدينة لا مناصرين لهم فيها؟)..
في الزاهريّة جريحان بينهما فتى وضعه حرج يُقال بسبب “نصف فرّوج”..
وكذلك في القبة، وهنا وهناك في أبي سمراء وباب الرمل والضنية، وصولاً إلى “مقتلة الميناء” التي قضى فيها ثلاث ضحايا بينهم صاحب مطعم سمك المحرمجي (فادي..) وإبن شقيقته عمر جبك، وذلك في مشهديّة هوليوديّة لا تقلّ عنفاً عن مشاهد فيلم “العرّاب” حين يتداعون لجلسة مصالحة، فتتحوّل إلى مذبحة مدبّرة بالبنادق والمسدّسات حسبما رصدت الوقائع كاميرات المنطقة!
يستسهل البعض الربط بين طرابلس “أمّ الفقير” وانتشار الفوضى الأمنيّة القاتلة في حاراتها وطرقاتها، ولكنّ ذلك لا يكفي.
معظم حالات القتل تتجاوز “لقمة العيش”، حتّى حين تدور الجريمة في صراع حول بسطة أو مصدر رزق.
فمَن يقف وراء الإشتباكات النقّالة هم من “القبضايات والشبّيحة” الذين يستولون، بحكم الدعم المتوفّر لهم من بعض السياسيين ومن بعض الأجهزة الأمنيّة، على الأرصفة والأملاك العامّة، ويحوّلونها إلى إستثمارات طويلة الأمد،.كما في حال سقف نهر أبو علي (إحترقت بسطاته مرّتين، دون توقيف الفاعلين المعروفين)، وحال كورنيش الميناء، وأحوال الكثير من المواقف والأماكن، ولعلّ جريمة الميناء الأخيرة كشفت ما وراءها من “سلبطة” على أرض عامة، حيث قامت القوى الأمنية بهدم المخالفة بعد فوات الأوان!
وثمّة ملاحظة أساسيّة أخرى، هي أنّ في معظم الحوادث والإشتباكات “أصبع” لأصحاب المولّدات الذين تحوّلوا، بالتضامن والتكافل مع الغياب المتعمّد للمحافظ رمزي نهرا كمسؤول عام عن أمن الشمال بالإضافة إلى تقاطع مصالح مع بعض كبار الضباط الأمنيين، إلى مافيا شبه رسميّة “يحقّ لهم ما لا يحقّ لغيرهم” من رخص أسلحة وزجاج داكن وتعدّيات على الناس تحت غطاء “تأمين الكهرباء للمواطنين” وهو دور قد تخلّت عنه الدولة منذ وقت طويل!
ما جرى ويجري في ليالي ونهارات المدينة بعيد كلّ البعد عن ضغوط “لقمة العيش”، بل هو مزيج من التواطؤ ما بين “رجل الأمن” و”الشبّيح” ما يجعل المسؤول الأوّل يغضّ الطرف عن أعمال الطرف الثاني، وهو ما يجعل معظم الناس في المدينة في نوع من حالة التأهّب والهلع إستعداداً لوضعيّة الدفاع عن النفس، بمعنى أنّني قد أحمل مسدّساً خوفاً من راكب موتوسيكل جاهز لشطب وجهي بسكّينه، أو من متسلّط على رصيف وطريق يحمل سلاحاً مرخّصاً جاهزاً لإطلاق النار..أو من مجموعة تابعة لصاحب مولّد تقرّر كلفة ومرجعيّة اختيار الإنارة التي أحتاج..
فالمدينة باتت تحتاج إلى “نفضة” تبدأ برأس الهرم الإداري، ولا تنتهي عند رؤساء المخافر وأصحاب الأمر والنهي في القضاء وغير القضاء.
مشكلة المدينة عميقة وشائكة، وخاصّة في ظلّ الحسابات الضيّقة والقاصرة لدى السياسيين الذين يكتفون بالبيانات العامة كأيّ مواطن عادي، وليس كمسؤولين يتحمّلون ويتابعون مسؤولية ما يجري (لا تكفي البيانات ولا الجولات الإستعراضيّة المصوّرة في الأحياء..)..وربّما لدى طرابلس “فرصة ذهبيّة” للخروج من موتها اليومي البطيء من خلال السلطة الجديدة المكوّنة من رئيس للجمهوريّة ذي سيرة ناجحة في بعبدا، ومن رئيس تغييري في السراي الكبير، ومن وزير للداخليّة يُقال أنّه “صارم وشديد، لم يُصب بلوثة الفساد”:فهل تصحّ هذه الفرصة؟

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top