
استناداً إلى المثل القائل “الباب اللي يجيك منه ريح سده واستريح”، شكلت الحدود اللبنانية المفتوحة منفذاً لتهديد استقرار الدولة. فقد كانت سوريا الممر لتهريب السلاح والمسلحين، بينما كانت إسرائيل الهدف والحجة للقوى الإقليمية التي تسعى للهيمنة على لبنان ضمن مشروعها التوسعي، مما دفع البلاد إلى الانزلاق في حروب لا تنتهي. الثابت في هذه الحروب كان غياب الدور السيادي للدولة اللبنانية.
لقد أخذت واشنطن على عاتقها مسؤولية ضبط الحدود بين لبنان وإسرائيل من خلال إعادة العمل باتفاقية الهدنة وتطبيق القرار 1701 بشكل فعلي، ما ساعد في استعادة الهوية اللبنانية-الدولية لهذه الحدود، التي شهدت في العقود الأخيرة تحولات بين دمشق وطهران. وفي هذا السياق، تم إبعاد إيران عن الحدود اللبنانية الجنوبية بالقوة بعد حرب الطوفان، حيث تم منع أي فصيل غير شرعي من التواجد في جنوب الليطاني واستخدامه لأجنداته الإقليمية.
أما بالنسبة للحدود اللبنانية-السورية، فقد كانت تُشكل دائماً نقطة صراع، خاصة في ظل أطماع النظام السوري في لبنان، إذ لم يعترف هذا النظام يوماً بوجود دولة لبنانية مستقلة، وكان يسعى لإلحاق لبنان بسوريا. بعد سقوط نظام صدام حسين، تحولت الحدود بين لبنان وسوريا إلى معبر استراتيجي لإيران، مما ربط طهران ببغداد ودمشق وبيروت وصولاً إلى غزة. لكن بعد إسقاط نظام الأسد، وتغير الواقع في سوريا، أصبح “حزب الله” محاصراً بين إسرائيل ودمشق.
مع وصول نظام جديد في سوريا أعلن عن رغبته في بناء علاقة دبلوماسية مع لبنان بعيداً عن الهيمنة الإيرانية، سعت المملكة العربية السعودية إلى إبعاد إيران عن الحدود بين لبنان وسوريا وضمان الاستقرار على جانبي الحدود. وفي هذا الإطار، رعت السعودية اجتماعاً بين وزيري الدفاع اللبناني والسوري، حيث تم بحث تبادل المعلومات الأمنية وتنسيق الجهود في سبيل ترسيم الحدود وضمان استقرار البلدين واستقلالهما.
الرعاية السعودية لهذا التحرك كانت بمثابة رسالة سياسية تؤكد أن مرحلة الحدود المفتوحة والتي كانت جزءاً من استراتيجية “وحدة الساحات” قد انتهت. وبرزت السعودية كطرف فاعل في دعم سيادة الدول العربية واستقلالها، معلنة أن الهيمنة الإيرانية على لبنان وسوريا لن تُسمح بعودتها.
لأول مرة منذ عقود، توافقت الإرادة الدولية على فرض السيطرة على الحدود اللبنانية مع إسرائيل وسوريا. فقد تولت واشنطن ضبط الحدود مع إسرائيل من خلال علاقتها مع تل أبيب، بينما تولت الرياض مسؤولية الحدود مع سوريا من خلال حرصها على استقرار الدول العربية. ولم تعد الحدود مع سوريا أقل أهمية من الحدود مع إسرائيل، إذ أن ضبطها كان خطوة أساسية نحو بناء دولة فعلية في لبنان.
إن ضبط الحدود اللبنانية، سواء مع إسرائيل أو سوريا، يُعتبر تحولاً استراتيجياً بارزاً في تاريخ لبنان. فهذه الحدود أصبحت تحت إشراف دولي، مما يتيح للبنان فرصة لإعادة بناء دولة فعلية لأول مرة منذ ستين عاماً، بعد أن كانت قد سقطت نتيجة الفوضى الإقليمية والصراعات الداخلية.
المصدر:شارل جبّور – نداء الوطن