لبنان: خمسون عاماً من الانهيار التدريجي للاقتصاد

لم يكن لقب “سويسرا الشرق” الذي عُرف به لبنان بين الخمسينات وبداية السبعينات مجرّد وصف عابر، بل كان يعكس فعلياً مكانة البلاد الاستراتيجية كوجهة مالية وخدماتية وسياحية رائدة في المنطقة، مستنداً إلى نظام مصرفي موثوق وسرية مالية على غرار سويسرا. لكن مع اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975، دخل لبنان مرحلة طويلة من الانهيار الاقتصادي والانقسام الداخلي، فتفككت البنية التحتية، انهارت المؤسسات، وتراجعت الثقة بالنظام المالي، لينقلب المشهد من بحبوحة وازدهار إلى فوضى وفقر.

في تلك الحقبة، كان لبنان يتمتع باقتصاد حر وانفتاح على العالم. يروي أمين عام الهيئات الاقتصادية ورئيس جمعية تجار بيروت نقولا شمّاس أن الصادرات كانت تشكّل ثلثي الواردات، وهي نسبة مرتفعة تشير إلى قوة الإنتاج، وكانت الليرة اللبنانية تساوي 2.30 مقابل الدولار، فيما كان الدخل يصنّف ضمن أعلى شرائح الدخل المتوسط عالمياً. كان السفراء الأجانب يتسابقون لاعتماد بيروت مركزاً لعملهم، بينما كانت فعاليات مثل انتخاب ملكة جمال أوروبا تُقام في كازينو لبنان. تلك الصورة الوردية بدأت بالتبدد تدريجياً مع تدفّق الأموال الخارجية، بعضها بهدف الاستثمار، وبعضها الآخر كما يقول شماس كان يُحضّر للمعارك العسكرية التي بدأت في نيسان 1975، ضمن سياقات سياسية واقتصادية محلية ودولية.

مع بداية الحرب، تحوّل الاقتصاد من اقتصاد سلم إلى اقتصاد حرب، فانكمش الناتج المحلي من 4.67 مليارات دولار عام 1974 إلى 2.8 مليار دولار عام 1990، بتراجع نسبته 40%. وشهد لبنان خلال الحرب تراجعاً حاداً في بعض السنوات، مثل عام 1976 عندما هبط الناتج إلى 1.9 مليار دولار، وعام 1982 خلال الاجتياح الإسرائيلي حيث سُجّل تراجع إلى 2.6 مليار دولار. في المقابل، حدثت بعض التحسّنات المؤقتة، كما في 1979 و1984، حين ارتفع الناتج بشكل ملحوظ، لكنّها لم تكن كافية لتعويض الضرر البنيوي العميق.

القطاع المصرفي بقي صامداً نسبياً، محافظاً على ثقة المودعين والمصارف المراسلة، رغم التداعيات الخطيرة. إلا أن الدولرة بدأت بالتصاعد منذ عامي 1974 و1975، وبلغت نسباً مقلقة وصلت إلى 90% من الودائع. هذا التوجه أثّر سلباً على الاقتصاد الوطني، وزاد من هشاشته في وجه الأزمات. أما الليرة اللبنانية، فقد انهارت تدريجياً، من 2.30 للدولار إلى 2750 ليرة بنهاية 1992، أي أنها فقدت ما يقارب 1000 ضعف من قيمتها على مدى 17 عاماً.

وإذا كان من إيجابية يمكن استخلاصها من حقبة الحرب الطويلة، فهي الانتقال إلى نمط لا مركزي في النشاط الاقتصادي، حيث انتشرت الأعمال في المناطق بعد أن كانت مركزة في بيروت. إلا أن هذه الدينامية لم تكن كافية لتعويض تراجع الصناعة الوطنية، التي رغم احتفاظها بحصص كبيرة في السوق، لم تتمكن من سد الفجوة التي خلّفها التراجع في الاستيراد.

شمّاس، الذي راقب الاقتصاد اللبناني على مدى عقود، يقسّم السنوات الخمسين الماضية إلى 8 سنوات إيجابية فقط مقابل 42 سنة سلبية، وفقاً لأربعة معايير: النمو الاقتصادي، الوضع المالي (عجز ومديونية)، مؤشر البؤس (بطالة وتضخم)، وانهيار العملة. فباستثناء بعض السنوات مثل 1991، 1994، 2003، ومرحلة الذروة بين 2009 و2010، فإن الغالبية العظمى من السنوات كانت تعكس حالة من التدهور أو الجمود أو الارتباك.

من 2011 بدأت تداعيات الحرب السورية والنزوح الكثيف إلى لبنان، والذي تجاوزت كلفته 50 مليار دولار، تضع الاقتصاد في مسار انحداري. تلا ذلك حظر خليجي امتدّ لعشر سنوات، أعاق التصدير والتبادل التجاري، وصولاً إلى الانفجار الكبير في 2019، حيث انهار النظام المالي والمصرفي بشكل كامل، واحتُجزت ودائع الناس، وفقدت الليرة قيمتها لتتخطى عتبة 140 ألف ليرة للدولار.

اليوم، لا يرى شمّاس أي أمل بنهضة قريبة. الدولة لا تملك أي سيولة، لا في مصرف لبنان ولا في الخزينة، والمساعدات الخارجية المنتظرة لا تزال مؤجلة. ما يُرتقب فقط هو دعم محدود من البنك الدولي وصناديق مانحة عبر “صندوق متعدد المانحين”، بمبلغ إجمالي لا يتعدى المليار دولار، وهو مبلغ زهيد مقارنة بحجم الخسائر.

وفي ختام حديثه، يشير شمّاس بمرارة إلى أن لبنان، الذي كان يوماً مركزاً مالياً وسياحياً مزدهراً، بات اليوم منبوذاً اقتصادياً، معزولاً عن محيطه الخليجي، ومتهماً بتهريب الممنوعات، فيما تتحمّل الدولة مسؤولية مباشرة عن الأزمة المالية، عبر إنفاق أموال المودعين بلا وجه قانوني، ومن دون أي نية حقيقية لإعادتها.
المصدر:باتريسيا جلّاد – نداء الوطن

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة: