
بقلم خالد صالح
خمسون سنة مرّت ولم تتوقّف “بوسطة” عين الرمانة حتى اليوم، خمسون سنة قضت على كل المحاولات التي بُذلت من أجل ترميم “الجسد اللبناني” مما أصابه من تصدعات، فذهبت كل المحاولات أدراج الرياح، وأمام كل حدث يطرأ على الساحة اللبنانية نستشعر أننا أمام “بوسطة” أخرى قد تضعنا على مشارف خمسين سنة أخرى ..
13 نيسان 1975 المحفور في أعماق الذاكرة اللبنانية كواحدة من أبشع وأفظع الذكريات المؤلمة، لييس فقط لأنه التاريخ المشؤوم لدخولنا نفق “الحرب الأهلية”، بل لأننا لم نتعلّم بعد من فظاعة هذا اليوم ونتائجه، ولم نستلهم العبر مما حصل بعد هذا التاريخ من كارثة طاولت لبنان برمته، كارثة تدمير لبنان بشرًا وحجرًا ودولة ومؤسسات، ورغم المحاولة الجدية الوحيدة لمسح آثار “البوسطة” من تاريخنا والمتمثلة بوثيقة الوفاق الوطني في الطائف، لم نزل أسرى هذا الهاجس الذي يقض مضاجعنا أمام كل مفترق نجد أنفسنا واقفين أمامه ..
13 نيسان 1975 كان تاريخًا لـ “بوسطة” جابت كل المناطق اللبنانية وأشعلت حربًا عبثية وجعلت التبعية لمشاريع وأجندات خارجية تتقدم على الروح الوطنية الجامعة التي تُعتبر الضمانة الحقيقية لبقاء لبنان، وحتى اليوم مازالت “البوسطة” تسير في شرايين البلد من دون أي بوادر تلوح في الأفق لتوقفها أو بلوغها محطتها الأخيرة، المحطة الأخيرة التي لاتزال مجهولة الشكل والمضمون ..
خسرنا البلد
منذ 13 نيسان 1975 هذا التاريخ الأسود تحول لبنان الذي طالما تمّ التغني بقيمه الجميلة كالحرية وحرية الفكر وملتقى الشرائع السماوية والحرية الدينية وسويسرا الشرق ومحط انظار السياح حول العالم، إلى ساحة الحروب المتنقلة التي انتجت أجيالا بعيدة كل البعد عن الانتماء الوطني، وطبقة سياسية فاسدة كانت خلال الحرب تشكل طبقة أمراء الحرب الذين تحوّلوا فيما بعد إلى ملوط الطوائف وأمراء السياسة.
وبعيدًا عن تفاصيل ذلك اليوم الأسود التي يعرفها القاصي والداني والكبير والصغير، نظرًا لأننا نستذكرها في كل عام، نشعر أن “النفوس المريضة” المتواجدة بيننا، لاتزال مهيئة لخوض هذه “المغامرة” الخطيرة من جديد، فتداعيات 13 نيسان تطلّ برأسها بين الحين والآخر ونشعر أن “المتاريس” و “السواتر الترابية” و “خطوط التماس” ستعود لتُهيمن على مناطقنا ..
استمرت الحرب الأهلية قرابة الـ 15 سنة، لكننا ورغم مضي ما يزيد عن 35 سنة عجزنا عن مسح أثارها من تاريخنا ومن حياتنا، لأن الكثيرين ممن شاركوا فيها خلعوا “بذاتهم العسكرية” وارتدوا “ربطات العنق”، أيضا هناك من ترك “الخنادق” ليسكن “القصور”، لكن رائحة “العبث” السياسي والطائفي لاتزال تعبق بأنوفنا مع كل إشراقة لنهار جديد من عمر هذا الوطن الجريح .
يخطئ من يظن أن الحرب الاهلية اللبنانية انتهت باتفاقات واجتماعات لوزان والطائف والدوحة ولقاءات بعبدا، بل هي لاتزال مستمرة إلى الآن وخير دليل النزاع المستمر بين أمراء الطوائف الذين يحاولون الحصول على القدر الاكبر من المكاسب الشخصية والطائفية، حتى لو قاموا بتغطية النزاعات هذه بغطاء سياسي وسباق على الاصلاح الوطني، فمعظم الوجوه الحالية كانت طرفا اساسيًا في الحرب الأهلية وتم تحريكها من الخارج لتنفيذ الأجندات المشبوهة، وأكبر الخاسرين “لبنان” وشعبه الذي سيدفع الثمن طويلًا كما دفع سابقا.
عودٌ على بدء
ليس من وليد المصادفات أن تتشابه الظروف التي أحاطت لبنان قبل 13 نيسان 1975، وبين ما هي عليه اليوم، فكأن وراء الكواليس هناك من له مصلحة بأخذ هذا البلد إلى الاقتتال الداخلي، كانت الجبهة الجنوبية للبنان مشتعلة قبل 50 سنة بوجه الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، وكانت القوى اليمينية المسيحية بقيادة الكتائب معارضة لأي عمل عسكري مقاوم في الجنوب، والكباش السياسي الداخلي ينقسم على مشاريع عدة ورؤى مختلفة التوجهات .
ماذا عن اليوم؟، لا شيء تغيّر، إذ على هذه الجبهة تتكرّر المشهدية نفسها، إنما تحت مسمّيات جديدة، يُضاف إليها حركة ديبلوماسية أميركية تتشابه مع حركات “فيليب حبيب” ورفاقه من بعده، وكأن في ذلك إيذانا لعودٍ على بدء، لاسيما أن “البوسطة” لاتزال تتنقل في مناطقنا بكل حرية، ولم تزل ذاكرتنا تخوننا بين الحين والآخر وأن المشاهد الأليمة التي عايشناها عن قرب هي مشاهد سينمائية لا تمت إلى واقعنا بصلة .
يكفي أن تجوب “وسائل التواصل الاجتماعي” صبيحة كل يوم، لتلمس إلى أي مدى أن “التفكك” الداخلي هو المسيطر على حياتنا، وأن ما يُفرّق اللبناني عن اللبناني أكثر بكثير من عوامل الربط والجمع، وأن الخطابات المنتشرة بين الناس على مختلف انتماءاتهم السياسية والدينية والمناطقية باتت كالجمر تحت الرماد، وأن أي “حماقة” تأتي من أي فريق كان ستجعل هذا “الهشيم” المسمّى “المجتمع اللبناني” يلتهب بلمح البصر، ورغم ذلك “لم نعتبر” ..