
لو لم يشهد العالم العربي، وتحديداً السنّي، تحولات جذرية في المزاج العام، لما تبدّلت مواقف سنة لبنان. هذا التحوّل ناجم عن غياب رموز ومشاريع كبرى مثل عبد الناصر، وأبو عمار، وأحلام الوحدة العربية، أو الأهداف الإسلامية العابرة للحدود والدساتير. وبذلك، فإن البركان السنّي الذي اندلع على مراحل بعد سقوط السلطنة العثمانية ونشوء الكيانات الحديثة، دخل مرحلة خمود، مقتنعاً بأن الأولوية اليوم هي لصيانة الأوطان، تحقيق الاستقرار، وتوفير رفاه الإنسان.
وقبل الدخول في مناقشة وضع “حزب الله”، لا بد من التوقف عند محطات تاريخية مهمة. فعلى الرغم من اندماج سنة لبنان، وجدانياً وفكرياً، مع المشاريع القومية الكبرى، إلا أن شراكتهم مع المسيحيين، وباقي الطوائف، أسفرت عن بناء وطن حديث تفوّق على محيطه. نجحت هذه الشراكة، رغم التباين حول دور لبنان، في ترسيخ دولة الاستقلال، تجاوز أزمة 1958، توقيع اتفاق الطائف، والالتقاء على شعاري “لبنان أولاً” و”الدولة أولاً” خلال انتفاضة الاستقلال.
فـ”سويسرا الشرق” لم تكن حصيلة جهد طائفي أو ديني محدد، بل ثمرة شراكة وطنية متكاملة. فلو لم يكن هناك تعاون بين المسيحيين والمسلمين، لما وُلد هذا النموذج، والدليل أن الحرب أسقطته. تجربة “حزب الله” تؤكد هذه الحقيقة: فأقصى ما أمكن تحقيقه معه هو الاستقرار الهش، دون قيام دولة فعلية، ما جعل لبنان تحت سلطة دولة فاشلة.
السنة، بانتمائهم إلى محيطهم العربي، ساهموا في بناء الدولة اللبنانية. أما الانتماء الشيعي، كما مثّله “حزب الله”، فقد وقف عائقاً أمام بناء الدولة، نتيجة تحكمه بالقرار الشيعي. والسؤال: لماذا نجحت التجربة مع السنة وفشلت مع شيعة “حزب الله”؟ الجواب يكمن في الطبيعة المؤسسية للعقل السني، مقابل ذهنية “الثورة” التي يحملها “العقل الشيعي” المستمد من الثورة الإيرانية، والتي تتعارض مع مفهوم الدولة.
لكن تجربة “حزب الله” لا تختصر تاريخ الشيعة في لبنان، خاصة أن هذه الطائفة، منذ الاستقلال، لعبت دوراً محورياً في صون الكيان اللبناني، ضمن إطار وفر لهم حرية لا نظير لها في معظم الدول العربية. غير أن الحروب، والتدخل الإيراني عبر الحرس الثوري، والدعم المالي والعسكري، دفعت بالطائفة إلى دفع ثمن باهظ نتيجة مصادرة قرارها لصالح مشروع خارجي.
عودة الشيعة الذين يمثلهم “حزب الله” إلى الدولة اللبنانية لن تتحقق ما لم تعد إيران إلى الداخل الإيراني. فالسنة، بعد تراجع المشاريع العربية والإسلامية الكبرى، عادوا إلى لبنان. أما الحزب، فإن انتهاء مشروعه المسلح، وهو أمر حتمي، لا يعني تلقائياً عودته إلى الدولة، نظراً لارتباطه العضوي بالعقيدة والسياسة الإيرانية. وطالما أن طهران تحتفظ بمشروعها التوسعي، سيظل “الحزب” ذراعها الأولى في تنفيذه.
لكن من المهم التوضيح أن تراجع إيران الحالي إلى داخل حدودها، نتيجة فشل أذرعها وتلقيها ضربات أميركية وإسرائيلية، لا يعني تخليها عن مشروعها، لأنه جزء من سبب وجود النظام الإيراني نفسه، ومن الصعب تخيّلها تتحول إلى دولة طبيعية.
ويبقى السؤال: هل استمرار تمسّك إيران بمشروعها التوسعي، رغم تراجعها المؤقت، يعني أن “حزب الله” سيستعيد دوره داخل دولة احتكرت السلاح وفرضت سيادتها؟ الجواب: كلا. فوجود الحزب المسلح ارتبط بظروف الحرب والفوضى، ومع غيابهما، يفقد قدرته على إعادة بناء نفسه عسكرياً، وبالتالي يصبح غير قادر على تنفيذ مشروعه، حتى لو استمر بالإيمان به.
في المقابل، إيران لن تتمكن بسهولة من تجاوز الوقائع الجديدة، إذ إن دورها الإقليمي بات محظوراً بقرارات دولية وأميركية وإسرائيلية، ويحظى هذا الحظر بدعم عربي، نتيجة الأذى الواسع الذي ألحقته بمحيطها. فالرغبة في التوسع لم تعد كافية، لأن الأدوات اللازمة لتحقيقه لم تعد موجودة ولن تعود
المصدر:شارل جبّور
نداء الوطن