التغييريون.. سقوط التمثال الخشبي!!

بقلم خالد صالح

يقول أحد معلّمي اللغة العربية: أنه ذات مرّة كنت ألقي محاضرة لطلابي بحضور اثنين من مفتشي التربية اللذين حضرا لتقييمي، وأثناء إلقاء الدرس قاطعني أحد الطلاب قائلًا : يا أستاذ اللغة العربية صعبة جدًّا، ولم يكد الطالب يُتمّ حديثه حتى صاح البقية في العبارة نفسها حتى أصبحوا جميعهم كـ “حزب معارضة”.
قلت لهم: حسنًا !! سنستبدل الدرسة بـ “لعبة”، ثم أخذت إصبع الطبشور ورسمت على اللوح زجاجة ذا عنق ضيق وبداخلها دجاجة، وسألتهم : من يمكنه إخراج الدجاجة من الزجاجة شريطة عدم كسر الزجاجة أو قتل الدجاجة؟، واللافت أن المفتشين انسجما باللعبة، ثم بدأت محاولات الطلاب لإخراج الدجاجة والتي باءت كلها بالفشل، فصرخ أحد الطلبة بصوت مرتفع : يا أستاذ قل لمن وضع الدجاجة في الزجاجة أن يُخرجها !!
ضحك الجميع مما قاله الطالب، فقلت لهم: هذه هي الاجابة الصحيحة، من وضع الدجاجة في الزجاجة بوسعه أن يُخرجها، وكذلك أنتم زرعتم مفهومًا في عقولكم أن اللغة العربية صعبة جدًّا، ومهما شرحتُ لكم سأفشل إلا إذا أخرجتم هذا المفهوم من تفكيركم !!
مفاهيم كارثية
قبل تسع سنوات ولدت لائحة “بيروت مدينتي” وخاضت الانتخابات البلدية آنذاك وفق مفاهيم التغيير التي زرعوها في عقول الناس وحصدوا نسبة عالية من التعاطف معهم، كانت تجربة شبه ناجحة، لكن العناوين التي جعلوها كـ “الدجاجة” في “الزجاجة” لم يستطيعوا إخراجها إلى الواقع بشكل حقيقي، رغم المخاض الكبير الذي شهده لبنان منذ الـ 2019 وحتى اليوم، ثورة وانهيار وانفجار وحرب تدميرية ..
انتهت الانتخابات البلدية والاختيارية في كل لبنان، وشكّلت نتائج التغييريين المخيبة مادة دسمة للمتابعين والمراقبين، الذين ردّوا سببها إلى المأزق السياسي العام لكلّ الذين نادوا بالتغيير، وليس فقط لأسباب لوجيستية أو تقنية، بل لأنهم فقدوا حيثيتهم الشعبية نتيجة “ديماغوجية” أدائهم غير المفهوم، الأمر الذي يُبشر بنهاية حتمية لهم خلال الانتخابات النيابية المقبلة .
تسلّق التغييريون هموم الناس في العام 2016 وتحديدًا في بيروت، ثم تسلّقوا آلام الناس أيضًا في الـ 2019، وأطلقوا جملة عريضة من العناوين، كانت أشبه بـ “الدجاجة” هم أنفسهم من وضعها داخل الزجاجة، وطلبوا من الناس إخراجها وهم يعرفون جيدًا أنهم الوحيدون الذين بوسعهم إخراجها، أو على الأقل استبدالها بعناوين جديدة يمكن لكلّ مناصر لهم أن يفهمها ويعمل على تحقيقها .
سقوط كارثي
وجهّت الانتخابات البلدية في لبنان عمومًا وفي بيروت على وجه التحديد “صفعة” عنيفة للمنادين بالتغيير، وكان يُمكن تجاهل هذه النتائج وحصرها بالتحالفات العائلية، لكن دخول نواب التغيير على خط المواجهة مع الأحزاب التقليدية، وضع معالم الانتخابات النيابية المقبلة على الطاولة، وسيكون من الاعجاز بمكان تحقيق نتيجة مشابهة لما تحقق في الـ 2022، فالعناوين التي زرعوها في رؤوسهم وفي رؤوس من أيّدهم وساندهم، لم يستطيعوا حتى اللحظة الخروج من عنق الزجاجة، فوجدوا أنفسهم بين مرّين، إما قتل الدجاجة أو كسر الزجاجة، وفي الحالين خسارتهم واقعة حتمًا .
ثلاث سنوات على ولادة “كتلة التغييرين”، ولم تنجح هذه الكتلة في بلورة مشروع سياسي عابر للمناطق، بل “انفخت الدف وتفرّق العشاق” أمام أول مفترق، وبدلًا من ازدياد نسبة التماسك فيما بينها، تشتّت أصواتهم على كتل متفرقة، وغاب التنسيق حول القضايا الأساسية، وإن كانت قد التقت في مكان ما لكنها عارضت نفسها في أماكن كثيرة، وهذا يدلّ على ضعف حالتهم الشعبية التي انتهت مع انتهاء مفاعيل 17 تشرين ولن تتكرر ..
أثبتت الانتخابات البلدية أن “التغييرين” تجربة ظرفية لا يُعوّل عليها كثيرًا، لهذا كان سقوط “بيروت مدينتي” وبهذه الصورة نتيجة فقدان الماكينة المتناغمة، وذهبت للمواجهة فقط بأدوات العزف على الأوتار السياسية المعتادة، أسلوب جعلهم مادة سخرية للناس، فهذا الأسلوب لم يعد كافيًا لخوض معارك انتخابية أو سياسية، ففقدوا قوتهم التجييرية التي عادت إلى قواعدها الحزبية بعدما خابت آمالهم نتيجة سقوطهم الكارثي في الأداء على المستوى العام ..
القوة التقليدية حاضرة
فقد “التغييريون” دعائم حملاتهم منذ الـ 2016 حتى اليوم، وانكشفت أقنعتهم نتيجة العجز الفاقع الذي ضربهم، ونجحت الأحزاب التقليدية في زرع بذور “الشك” فيهم، وبدأت تُلملم قواعدها وقواها لرفع نسبة تمثيلها على حساب التغييرين حصرًا، خصوصًا أن انتخابات بيروت الأخيرة كشفت “عورتهم” فظهروا بلا حول ولا قوة أمام تكتل الأحزاب “بيروت تجمعنا” أو المنتفضين على الأحزاب والتغييرين معًا “بيروت بتحبك”، فظهروا بشكل هزيل ولم يستطيعوا ترك أي بصمة تُذكر .
لم تعد حالة “التغيير” مناسبة للمرحلة المقبلة، لذلك تعمد القوى السياسية التقليدية الحاضرة منها والغائبة على صوغ مشاريعها المستقبلية وفق التطورات المتسارعة التي شهدها لبنان والمنطقة، حتى منطق الاعتراض على “المنظومة” صار سمجًا لأن التغييرين أنفسهم دخلوا في تفاصيلها لكنهم عجزوا عن تغييرها من الداخل لا بل انغمسوا أكثر في كواليسها، حتى صارت لغتهم في هذا المضمار خشبية لا تجدي نفعًا وغير قادرة على المواجهة .
لم تستطع قوى التغيير أن تراكم رصيدًا سياسيًا تستند عليه في المرحلة المقبلة، وتهاوى العنوان العريض الذي حملته وخرجت خلافاتهم إلى العلن وظهروا كحالة آنية تحكمها تباينات سياسية انتهت مع انتهاء هذه التباينات، وصار همها الأكبر منصبًّا على تحصين المواقع التي حصلت عليها، لكن دون ذلك عقبات جمّة، فهي فاقدة للأطر التنظيمية الجامعة، وتتحكم فيها أهواء ومصالح شخصية، قد تندثر نهائيًا في الربيع المقبل .

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة: