بقلم جوزاف وهبه

بعد بيروت، دمشق، صنعاء، غزّة بكاملها إلّا من بعض الأنفاق، وبغداد (بشكل أو بآخر) ها هي العاصمة الأخيرة طهران تتحوّل إلى مرتع لسلاح الجوّ الإسرائيلي (ف 16 وف 35 وحتّى المسيّرات بكافة تشكيلاتها ومهامها)، وهو ما أعلنه رسميّاً رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي نتانياهو، وأكّده الرئيس الأميركي دونالد ترامب بقوله “لقد سيطرنا على طهران”، نافياً أن يكون في “مزاج” مناسب للتفاوض مع إيران حول وقف إطلاق النار:فماذا تعني هذه السيطرة، وكيف باتت تعبّر عن نفسها، بالرغم من الصواريخ الباليستية والفرط صوتيّة التي لا يزال يطلقها الحرس الثوري باتّجاه مدن ومنشآت إسرائيل مُوقِعاً فيها، بالتأكيد، أضراراً وخسائر فادحة؟

لقد باتت تتجلّى هذه السيطرة التامّة على سماء (وأرض ومرافق وشعوب) طهران في ثلاث أشكال مؤثرة تدرك جيّداً مخاطرها ومعانيها القيادات السياسية والعسكرية الإيرانية، بمَن فيهم المرشد الأعلى المختبئ في “مكان ما” قال ترامب أنّه يعرفه حقّ المعرفة، ولكن لم يحن بعد أوان كشفه، وبالتالي تنفيذ قتله تماماً كما جرى مع كبار ضباطه في الأيام الأخيرة، وكما جرى مع قادة حزب الله تباعاً وصولاً إلى الأمين العام حسن نصرالله، ومع قادة حماس، الواحد تلوَ الآخر، مثل اسماعيل هنيّة ومحمد السنوار شقيق القائد الذي سبقه محمد السنوار:

-القدرة على التحكّم التام بحركة “الجنرالات” في العاصمة، ما يسمح للطيران الإسرائيلي في تنفيذ الإعدامات الفورية، كما حصل مع عملية إغتيال رئيس أركان الحرب الجديد علي شادماني، وهو الذي عُيّن منذ يومين خليفةً لرئيس الأركان السابق اللواء محمد باقري الذي جرى اغتياله مع كبار القادة العسكريين في أوّل هجوم إسرائيلي على إيران.

وحرّية الحركة الأمنية الإسرائيلية في سماء طهران باتت تشبه حركتها في باقي عواصم الممانعة (السابقة) حيث تراقب من الجوّ نشاط كلّ عنصر أو مسؤول، مزوّدة بكامل المعطيات الإستخباراتية الواسعة.سماء طهران ملأى “بالمسيّرات الأبابيل” ما يجعل تفوّقها حاسماً، وينمّ عن هشاشة وضعف النظام الإيراني الذي بدا “نمراً من ورق” أو “بعبعاً” بُنيَت قوّته على أوهام المأثرة الدينية التاريخية، ربطاً بمقتلة الحسن والحسين، وبظلامة الإمام علي وباقي الأئمّة الشيعة!

-إنّ الهجوم على التلفزيون الرسمي للحرس الثوري، في لحظة ظهور المذيعة الشهيرة المؤثرة سحر أمامي، ليس من باب المصادفة.إنّه، في علم الحروب، إعلان السيطرة على البلد بكامل مؤسساته العسكرية والأمنية والإعلامية.وكلّنا يتذكّر مرحلة الإنقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة العربية (الرؤساء جمال عبد الناصر، حافظ الأسد، صدام حسين، معمّر القذافي.. وغيرهم من العرب والأفارقة)، إنّما كانت الخطوة الأولى للإنقلابيين تتركّز على السيطرة على محطّات التلفزة والإذاعة الرسمية، لإعلان “البيان صفر”، ومن ثمّ تتوالى باقي الخطوات العسكرية.أراد نتانياهو من خلال الضربة المحدودة على التلفزيون الرسمي تثبيت سيطرته على القرار الإيراني الرسمي، معلناً بالنار والحديد والتفوّق التكنولوجي الحديث:الأمر لي!

-الإعلان الصريح عن الإستعداد لاغتيال المرشد الأعلى الخامنئي في تكرار لسيناريوهات مشابهة حدثت وتحدث في بيروت وصنعاء وطهران نفسها (مقتل هنيّة)، بما يعني أنّ “لا خيمة فوق رأس أحد” في العاصمة الإيرانية التي باتت ساقطة عسكريّاً وأمنيّاً، بانتظار التوقيت المناسب لما يمكن أن ينتج عن هذا السقوط المعنوي الكبير، من تحرّكات شعبيّة وسياسيّة وربّما عسكريّة يمكن لها أن تطيح بالسلطة القائمة بعد أن استنفدت كامل سرديّتها الدينيّة والدنيويّة والنوويّة.

نصف قرن من الزمن، تحوّلت خلالها بلاد فارس العظيمة إلى مجرّد رواية دينيّة عمرها 1400 سنة من الزمن الغابر والأحداث غير المثبتة.باسمها (الرواية الدينية) حُكِم الشعب الإيراني، وباسمها تحوّلت من دولة غنيّة بالنفط إلى دولة منبوذة محاصّرة توزّع “الثورات” هنا وهناك بالإعتماد على تُرُهات لا تغني ولا تسمن عن جوع، وباسمها قُمعت إنتفاضات عديدة آخرها “انتفاضة مهسا أميني” التي أشعلها مقتل هذه الشابة تحت التعذيب بسبب عدم ارتدائها الحجاب..وباسمها أُحرقَت غزّة، ودُمّر جنوب لبنان والضاحية، وقُصفت (ولا زالت تُقصف) صنعاء، وشهدت سوريا أكبر عملية نزوح في التاريخ حيث فاق عدد السوريين اللاجئين العشرة ملايين قبل أن تنجح الثورة في إقصاء بشّار الأسد وفتح الباب أمام عودة آمنة وسالمة للسوريين الموزّعين على دول الجوار في لبنان وتركيا والأردن.

نصف قرن من الكوابيس والعتمة والوهم ب “هلال شيعي” يوازي الغلبة السنّية في المنطقة، مستغلّاً شعار “العودة” إلى فلسطين الذي طالما دغدغ مشاعر الشعوب العربية، وصولاً إلى التحوّل الكبير الذي أطلقته عمليّة “طوفان الأقصى”، والتي نعيش تداعياتها القاتلة والواعدة في آنٍ واحد، في نوع من الإنفصام الغامض الذي سيلاحق وعينا وثقافتنا، ربّما لأجيال عديدة!

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة: