
بقلم رفيق عبدالله- ديموقراطيا نيوز
رغم كثافة النيران وتضارب التصريحات في التصعيد الأخير بين إيران وإسرائيل، بقي المشهد السياسي يخضع لميزان واحد: الولايات المتحدة الأمريكية. فواشنطن لا تزال تمسك بمفاتيح الإيقاع العالمي، تضبط توقيت الصراعات، ترسم خطوط الاشتباك، وتحدّد سقف التصعيد ومتى يبدأ ومتى ينتهي. لا حرب تنشب من دون إشارة أمريكية، ولا هدنة تُعقد دون موافقة غير مباشرة من دوائر القرار في العاصمة واشنطن.
حتى من كان يُعتبر استثناءً في هذه المنظومة، كرئيسها دونالد ترامب، لم يعمل خارج السياق العميق للدولة، بل داخله. فالرجل، الذي بدا لوهلة كأنه متهور أو متقلب، أثبت في أكثر من محطة أنه يتصرف ببراغماتية شديدة خدمةً للمصالح الأمريكية. خطابه الحاد وسلوكه الخارج عن المألوف لم يكونا سوى واجهة لمعادلات محسوبة تُراعي أولويات الدولة العميقة: أمن إسرائيل، تحجيم إيران، والحفاظ على استقرار الأسواق والحدود.
لقد خرجت الولايات المتحدة من تجربتي العراق وأفغانستان بقناعة راسخة: إسقاط الأنظمة بالقوة يولد رد فعل وطني جامع يدعم النظام الساقط ضد الغازي. ولذلك تغيّر النهج الأمريكي من المواجهة المباشرة إلى استراتيجية القوّة الناعمة: الحصار، التضييق الاقتصادي، زرع المعارضة من الداخل، تقليب الرأي العام، وزعزعة الثقة بالنظام من داخل بيئته، حتى يبدو سقوطه وكأنه ناتج عن إرادة شعبية لا تدخل أجنبي.
وفي موازاة هذا النهج الأميركي، برزت دول الخليج العربي كلاعبٍ دبلوماسيٍ فعّال، يمتلك الأدوات الناعمة والقدرة على التأثير. فدول الخليج، وعلى رأسها السعودية وقطر، لم تكن مرتاحة للتصعيد مع إيران، لأن أمنها القومي يعتمد أساسًا على الاستقرار لا على المواجهات المفتوحة. أي حرب طويلة الأمد في الإقليم، أياً كانت نتائجها، ستكون لها انعكاسات خطيرة على الأمن والاستثمار والاقتصاد الخليجي.
السعودية، بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، قدمت نموذجًا متقدّمًا من الحنكة الدبلوماسية. رحّبت بالحجاج الإيرانيين واستضافتهم بأفضل صورة، في رسالة ود موجهة إلى الشعب الإيراني. ثم اتخذت موقفًا واضحًا برفض العدوان الإسرائيلي على إيران، عبر إغلاق أجوائها أمام الطيران الإسرائيلي خلال الضربة. كما كانت من أوائل الدول الموقعة على بيان منظمة التعاون الإسلامي الرافض للاعتداء على إيران، مؤكدة أن الخلاف ليس مع إيران كأمة، بل مع تمددها الإقليمي غير المنضبط. هذا الموقف المتوازن حرص على الفصل بين السياسات العدوانية والمكون الوطني الإيراني، وهو ما يُحسب للمملكة على الساحة الدبلوماسية.
أما قطر، فواصلت تثبيت مكانتها كدولة مفاوضة من الطراز الأول. عبر شبكة علاقاتها وموقعها الوسيط، استطاعت أن تلعب دورًا محوريًا في صياغة مخرج التهدئة. نال الأمير تميم بن حمد آل ثاني شكرًا مباشرًا من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اعترافًا بدور الدوحة في المفاوضات غير المباشرة التي أدت إلى وقف إطلاق النار. وحتى الضربة التي استهدفت قاعدة العديد، وإن كانت مؤلمة رمزيًا، فقد قُبلت ضمنًا كثمن محسوب مقابل إغلاق جبهة كانت على وشك الانفجار.
أما اتفاق وقف إطلاق النار، فكان أقرب إلى “هدنة اضطرار” لا إلى تسوية دائمة. ورغم التكتم الشديد على بنوده، فإن المؤشرات تدل على وجود تفاهم غير معلن لمعالجة أو تجميد ثلاث ملفات أساسية كانت في صلب التصعيد:
- ملف تخصيب اليورانيوم الإيراني
- البرنامج الصاروخي الإيراني
- النفوذ الإيراني في المنطقة
من جهة إيران، فقد نجح النظام في الصمود، رغم انكشاف نقاط ضعف واضحة، خصوصًا على المستوى الاستخباراتي والعسكري. النظام خرج من المعركة أضعف، لكنه أثبت قدرة على الثبات في وجه هجوم متعدد الاتجاهات. أما إسرائيل، فرغم أنها حققت بعض المكاسب السياسية والتكتيكية، خصوصًا في تحسين موقع نتنياهو الداخلي، إلا أنها لم تنجح في تحقيق أهدافها الكبرى، وعلى رأسها ضرب البنية التحتية للنظام الإيراني أو تفكيك أدواته في الإقليم.
لقد أرادت إسرائيل أن تبني على ما تعتبره “نجاحات” في جنوب لبنان أو في غزة، فتقدمت خطوة نحو طهران، لكنها اصطدمت بحقيقة أن إسقاط النظام الإيراني ليس مهمة ممكنة عبر الضربات الجوية فقط، ولا دون ثمن استراتيجي باهظ.
في النهاية، يمكن القول إن كل طرف خرج من المعركة بأفضل ما يمكن أن يحصل عليه في هذه المرحلة. إيران لم تسقط، إسرائيل لم تنتصر، أمريكا بقيت تمسك بالخيوط، والخليج استطاع أن يفرض معادلة الاستقرار فوق كل الاعتبارات. هدنة الضرورة أنهت الجولة، لكن الملفات الثلاثة ستبقى مشتعلة تحت الرماد، تنتظر لحظة القرار الكبرى.