
بقلم رفيق عبدالله- ديموقراطيا نيوز
«لبنان كيان وُلد من رحم التناقضات»، كتب كمال صليبا، مضيفًا: «لقد جُمعت في لبنان دويلات الطوائف على أمل صناعة وطن، فكان الناتج كيانًا يبحث منذ ولادته عن هويته». أما فؤاد بطرس فرأى أن «لبنان لم يُرسم كدولة جامعة، بل كحل وسط يرضي قوى متضادة»، وشارل مالك اعتبر أن «المشكلة في لبنان ليست في العيش المشترك، بل في تحديد معنى الكيان نفسه».
هذا الإشكال البنيوي ما زال ينعكس حتى اليوم على نظرة اللبنانيين إلى بلدهم، وإلى موقعه في محيطه العربي. فبينما ترى القوى المسيحية في لبنان كيانًا أنشئ خصيصًا لحماية خصوصيتها السياسية والثقافية، تنظر القوى الإسلامية – السنية والشيعية – إلى الكيان بوصفه امتدادًا لجغرافيا وتاريخ حضاري موحَّد، كانت فيها الديانات والأعراق تتبدّل، لكن الانتماء إلى الأرض يظل راسخًا.
هذا التباين المفاهيمي انعكس بوضوح على علاقة لبنان بالعالم العربي. فالسُنّة في لبنان، تاريخيًا، ارتبطوا وجدانيًا وسياسيًا بالمحيط العربي، لا سيما بمصر الناصرية، ثم لاحقًا بالمملكة العربية السعودية. بينما تموضع المسيحيون تقليديًا في اتجاه الغرب، من فرنسا إلى الولايات المتحدة، مع حرص تكتيكي على علاقات متوازنة مع دول الخليج، خصوصًا في مواجهة النفوذ الإيراني المتصاعد. أما الشيعة، ومنذ الثمانينات، فباتوا يرتبطون عضويًا بالمشروع الإيراني في المنطقة، عبر حزب الله الذي تحوّل إلى لاعب داخلي وإقليمي.
مع منتصف الثمانينات، دخلت السعودية بقوة إلى الساحة اللبنانية من بوابة الرئيس الراحل رفيق الحريري، الذي أسس لمعادلة نفوذ متينة جمعت بين المال والإعمار والسياسة. شكّل الحريري نموذجًا لزعيم سني لبناني يتمتع بغطاء عربي–دولي، وبشعبية داخلية واسعة، ما عزّز موقع المملكة كلاعب أساسي في لبنان.
غير أن اغتيال الحريري عام 2005، وتبدّل الموازين الإقليمية، سمحا بصعود النفوذ الإيراني وتراجع الحضور العربي، وخصوصًا السعودي. منذ 2009، بدأت الرياض تنكفئ تدريجيًا، متجنبة الاستثمار في المشهد اللبناني، ومكتفية بإشارات سياسية عامة، وبدعم محدود لبعض القوى التقليدية.
ورغم هذا الغياب التدريجي، لا تزال السعودية تحافظ على حدّ أدنى من النفوذ في لبنان، مستندة إلى رصيد تاريخي ضخم من الدعم السياسي والمالي استثمرت فيه لعقود. إلا أن هذا الرصيد، الذي كان كافيًا لفرض احترام واسع وحضور فاعل، بدأ اليوم يتآكل ببطء. فقد بات الشارع السنّي – الذي تفهّم في السابق غضب الرياض من اختلال التوازن الداخلي لصالح حزب الله – يتساءل اليوم: هل لا تزال المملكة جادة فعلاً في استعادة نفوذها في لبنان، أم أنها تكتفي بالحد من الخسارة، من دون أي نية لبناء استثمار سياسي جديد؟
القلق يتزايد من أن تكون السعودية قد دخلت في مرحلة “الاستنزاف الصامت”، حيث يُستهلك ما تبقى من رصيدها الشعبي والسياسي من دون مقابل حقيقي أو استراتيجية واضحة. والمفارقة أن غياب المبادرة يجعل هذا النفوذ، بدل أن يكون عنصر قوة، يتحول إلى وزن بلا حاضنة، يتآكل مع الزمن.
أما اليوم، وبعد التراجع النسبي في الهيمنة الإيرانية نتيجة التحولات الإقليمية، يبرز سؤال استراتيجي: هل تعود السعودية إلى لعب دور مؤثر في لبنان؟ وهل ترى في استقراره ركيزة من ركائز أمنها الإقليمي، أم باتت تعتبره ملفًا خارج الأولوية، في ظل تركيزها الداخلي ومنافساتها الاقتصادية الجديدة في السياحة والخدمات؟
الحقيقة أن غياب المملكة يُحدث فراغًا واضحًا في التوازن اللبناني، لا سيما في البيئات السنّية التي باتت تتلمّس غياب المشروع العربي مقابل هيمنة الأمر الواقع. وإذا لم تبادر الرياض إلى استعادة دورها التاريخي – لا عبر المكرمات، بل من خلال رؤية سياسية واقتصادية شاملة – فإن الساحة ستظل مفتوحة لقوى أخرى، لا تتقاطع مصالحها بالضرورة مع مصلحة لبنان أو مصلحة العالم العربي.