
بقلم خالد صالح – ديموقراطيا نيوز
أيها اللبنانيون:
قال الأديبُ اللبناني الكبير جبران خليل جبران: “الحقّ يحتاجُ رجلين .. رجلٌ ينطقُ به ورجلٌ يفهمُه” ..
من هنا أبدأ لأسأل: كم سيكفيكُم من “أكفانٍ” لسَتر جُثثِ أحلامِكم التي لم تعشْ بالقدْرِ الكافي؟ .. كم سيكفيكُم من “ماءِ الزّهرِ” لإنعاش “وطنٍ” في صباحٍ جليل أُغمي على عطره؟ .. وكم من ممحاةٍ ستكفيكُم لتزيلوا عن وجوهِكم تلك النظرات الحائرة التي لم تصدّق أن “وطنَ الرّسالة” فَقدَ الانتماء إلى الحياة؟ .. وكم من ممحاةٍ ستكفيكم لتمسحوا عن عيونِكُم تلك الدمعات التي سقطت في غير مواعيدها ؟ ..
السلامُ عليكم .. السلامُ الذي أردتموه منهجًا لحياتِكم منذ نشأةِ هذا الوطنِ المعذّب، السلامُ الذي دفعتم ومازلتم تدفعون أثمانًا باهظة لقاءَ الوصولِ إليه ..
الموتُ .. ليس ذاك الواقفُ خلفَ الباب، يُلمّعُ حذاءَه ويسوّي ربطة عنقه، أو يُهندمُ عمامَته وعباءَته قبلَ الدخول، الموتُ ليسَ تابوتًا وكفنًا أو قبرًا وجنازة، الموتُ الحقيقي هو أن تقطعوا علاقتَكم مع الأحلام، مع إرادتِكم الحرّة، مع قدرتِكَم على النهوضِ كلّما شعرتُم أنّ سقوطَكُم بات نهائيًا ..
تسع عشرة سنة مرّت على مغادرتي إيّاكم غيلةً وغدرًا وقسرًا، وحتى اللحظة أسأل نفسي عمّا كان يدور في خُلد ذلك “المغرّر” به حين فجّر نفسه بـ “طنّين” من المتفجرات بي؟، وما زلت أسأل نفسي: من أين جاء كل هذا الحقد على “رفيق الحريري” رغم أنني ما عرفتُ الحقدَ والحسدَ يومًا ؟ ..
وأسألُ نفسي : ما الذي يجب أن نتذكّره، أو تريدون مني أن أتذكّره دومًا؟ .. هل نتذكّر نشأتنا قبل قرنٍ ونيّف من الزمن؟ .. أم هل نتذكّر الحروب البشعة التي عايشناها على مراحل مختلفة من تاريخنا؟ .. أو هل نتذكر الرجال الذين لقوا مصرعهم على مذبح هذا الوطن؟ ..
عندما استودعتكم الله أيها “الشعب الطيب” أنتم وهذا البلد الحبيب في ذلك اليوم التشريني البارد، كانت وصيتي الأساس “كونوا لوطنكم يكن وطنكم لكم”، وكنت أخشى عليكم قادم السنوات وعظيم الأزمات، لأنّه قد نعثر على قطعةٍ صغيرة من أرضِ الوطن كي ندفنَ جثتنا فيها، لكن كيفَ يُمكننا أن نعثرَ في هذا الكون على قطعةٍ لندفن الوطن ؟ ..
أعرفُ أنّكم تعانونَ اليومَ من “كوارث” لا تطاق، وأن الدّولة التي قاتلتُ لبنائِها، باتت الآن في مراحلَ الانهيار الأخيرة، ويمكنُكم فقط أن تضعوا الشواهدَ في كلّ مكان، في السّطوح، في الشّوارع، في الأرصفة، أو حتّى على ظهورِكم، ألم يعدونكم بـ “جهنم” وأوصلوكم إليها، بعدما كنا نسعى معكم ولكم للبحث عن لون الحرية، عن درجة حدّتها، ونحمل رؤوسنا وقلوبنا لنحتفل ؟.. وبينما كنا نؤسس كي يكون لبنان ” أصغر دولة عظمى في العالم”، كان هنالك مجموعة من “الوحوش” السائبة، التي تربّت على نهش اللحم الإنساني، تُعربدُ وتنافقُ وتتنافس فيما بينها على استعادةِ كلّ اللغات التي حاولنا مسحها من قاموسِنا الوطني .. فماذا نفعل ؟ ..
أيها الشّعبُ الطيب:
أملكُ فتحةً في القلب، تتّسعُ كلما ضحكتُ، تدخلُ وتخرجُ منها الحروب، أملكُ ندبة في روحي وقلبي ووجهي، عميقة وغائرة، تنزفُ كلما طارت عيونكم حولها، حصلتُ عليها من “شاحنة مفخخة” .. هل ترون معي .. شاحنة مفخّخة ؟ وما حيلتُنا أمام هذا، أنصنعُ أبوابَ بيوتِنا من الحديد كي نصدأ خلفها ؟، أم نرفعُ الرّاية البيضاء أمامَ حجمِ السواد الذي أرادوه لهذا البلد؟ .. وما حيلتنا نحنُ الذين أردْنا السلامَ والأمانَ في أرضٍ أرادوها بحيرةً من الدّماء؟ ..
أعياكم اللهاث على مقاماتِ الرّقص المحموم فوق جثة الأمل، حتى صارت كلّ رقصةٍ اختناقًا وعبورًا إلى الشقاء، ورغم ذلك لم يحدث شيء، وها أنتم تحفرون تحت الأقنعة وتُرتّقونَ أوّل الحلم بآخره، لم يتغيّر شيء، الحزنُ مازال هو بعينه، فضفضة غبارٍ نحو المعاقل المحترمة للريح السوداء، والجرحُ مازال هو نفسه، منفتحًا على السماء، عاقدًا تسويةً بين الدّم والشمس ..
أيها الأهل والأحبة :
لا حاجة لأن يبكيكم الآخرون، إذ ستعتدلُ أعصاب الدموع في جلستها، وستبكيكم شقائقُ النعمان في الحدائق البريئةِ من خياناتِ المعنى في مجاهلِ الأفكار، وتبكيكم الأحلام المالحة، بينما “الأمل” بالخلاص ممّا أنتم فيه يُطقطقُ بـ “كعبه المهترىء” ويغادر، يرحلُ بلباقةِ أعوادِ الخيزران وهي تأخذُ شكلَ النّاي الحزين، يرحلُ بسرعةِ القرار الحاسم لعودِ كبريتٍ يشتعل انتقامًا من صقيعِ العيوب التي بدّلت حياتكم رأسًا على عقب ..
إن دماءَنا مازالت تمنحكم شعورًا بالقدرة على “القيامة” مرةً أخرى، دماؤنا التي حاولوا معادلتها بالمناصبِ والكراسي وببعضِ الأوسمةِ والميداليات، دماؤنا التي لم تجفّ بعد من تراب “ست الدنيا” تحوّلت مخرزًا في عيون الذين أرادوا قتلَ أحلامِنا وأحلامِكم، هذه الدماء التي حوّلتموها بإرادتكم الصلبة نبراسًا منيرًا لكم لمواصلةِ الكفاح في سبيلِ وطنٍ سيدٍ وحرٍ ومستقل، لن تتركوها تذهب هدرًا على ناصيات المصالح الشخصية والانتهازيات المقيتة والاستثمارات الرخيصة ..
أنتم أيها اللبنانيون المشاؤون نحو الأقدار العصيّة، أنا مثلكم وإن كنت لست بينكم، مازلت أُلبِسُ قلبي وعينيّ خوذاتها كلّ صباح، أنا مثلكم وكلّ شيءٍ صارَ قابلًا لإعادةِ النظر، منذ أن سالت الصحراءُ من عيوني، إلى حين تغلغلت قطراتُ دمي في تراب بيروت، صرنا نريد لألسنتنا أن تشحذ نفسَها لتلعق السماء، وأن نستعيد قدرتنا على مسح الشعارات التي تأخذنا إلى الهاوية ..
أنا مثلكم لكنني سبقتكم .. كلّنا نطوفُ بنعوشِنا على مفارق الحياة، نمشي الهوينا ونأخذُ دربَ الخلاص على محمل الجد، ولابدّ أن نتحلّى دائمًا بالإيمان الراسخ بقدرتنا على صناعة الفارق، وأن نجاهدَ بلا توقّف من أجل أن نمسحَ عن سماءِ وطننا دمعة متجعّدة، تبادلنا الكبرياء وعربدة الأضداد، وأنفقنا كل الوسوسات والهواجس، فقد انتهى حفل التناقضات، فلا داعي للاختبار فالمسافة أقربُ من وريد وأبعدُ من سماء ..
من جديد .. أيّها الشعبُ الطيب .. كونوا أكثرَ حرصًا وحذرًا مما كنتُ أنا عليه في ذلك اليوم .. فالانتحاري مازال يجلسُ في المقهى، يطلبُ قهوته السوداء كالفجيعة، أو مرّة كالعلقم، أو ربّما مالحة كالدموع، لكنها غالبًا ما ستكون ثقيلة، ثقيلة جدًّا كأكوام الأنقاض التي خلّفتها “شاحنة مفخخة” ..