بقلم خالد صالح
لم يكن العام ٢٠٠٤ عاديًا بالنسبة للبنان، بل يمكن اعتباره عام التحوّلات الكبرى، إذ بلغ الكباش السياسي أشدّه خصوصًا مع صدور القرار ١٥٥٩ (٢ أيلول ٢٠٠٤)، والذي جاء إثر الضغوط الكبيرة التي مارسها “النظام السوري” لفرض التمديد لرئيس الجمهورية آنذاك إميل لحود، ضاربًا عرض الحائط كل الجهود المبذولة لعودة الانتظام إلى الحياة السياسية في لبنان .
بعد هذا القرار تسارعت الأحداث بشكل مخيف، بدءًا من محاولة اغتيال النائب مروان حمادة، ثم توسعة “لقاء قرنة شهوان” بعد انضمام الرئيس الشهيد رفيق الحريري والنائب وليد جنبلاط له من خلال ما عرف في تلك الحقبة بـ “بريستول ١ و بريستول ٢”، وصولًا إلى اختيار الحريري الابتعاد عن الحكومة، وتشكيل حكومة من لون “سوري” واحد برئاسة الرئيس الراحل عمر كرامي، والتي شهدت على جريمة العصر في ١٤ شباط ٢٠٠٥.
كانت “الجريمة الزلزال” المحرّك الرئيسي لقوى عربية ودولية وفي مقدّمها المملكة العربية السعودية بقيادة الملك الراحل عبد الله بين عبد العزيز وفرنسا بقيادة الرئيس الراحل جاك شيراك، والتي أجمعت على إلزامية وضرورة خروج الجيش السوري من لبنان، لاسيما بعدما وجّهت إليه أصابع الإتهام بالتخطيط وتنفيذ جريمة الاغتيال الآثمة .
نهاية زمن الوصاية
شكل تاريخ ٢٦ نيسان ٢٠٠٥ محطة مفصلية من تاريخ لبنان، وانتهاء حقبة “الوصاية” التي ناهزت ثلاثة عقود، لعب فيها النظام السوري أدوارًا مختلفة ومتباينة في الهيمنة على القرار السياسي في لبنان، وصولًا إلى العام ١٩٩١ بحيث فرض هيمنته بالكامل على الواقع السياسي إثر مؤتمر مدريد، وبدأ بتشكيل “الدولة العميقة” في أجهزة الدولة الرسمية، إذ لم يكتفِ بالهيمنة العسكرية والأمنية، بل جعل نفسه الوصي المباشر بلا منازع على لبنان .
كان من المفترض أن يُشكل انسحاب الجيش السوري من لبنان فرصة حقيقية للسير قدمًا نحو بناء الدولة وتحويل هذه البلد إلى وطنٍ سيّد وحر ومستقل، لكن التمنيات شيء والوقائع شيء آخر، فأركان “الدولة العميقة” المتغلغلة في شرايين المؤسسات الرسمية شعرت بأنها قد مُنيت بشر هزيمة، وأن الشروع في بناء الدولة واستعادة هيبتها سيضع حدًّا نهائيا لتماديها المطلق، لذلك ومع خروج الجيش السوري بدأت حقبة جديدة يمكن تسميتها اصطلاحًا بـ “حقبة الصراعات السياسية”..
وصايات بدل وصاية
بعد العام ٢٠٠٥ أخذ الصراع الداخلي منحىً معقّدًا، واختل الميزان السياسي بشكل كاد أن يضع البلد وفي أكثر من مناسبة أمام صراعات داخلية قد تذهب به إلى حرب أهلية جديدة، وباتت الأزمات تعصف به أمام كل استحقاق، إذ لم تعد انتخابات رئاسة الجمهورية أو تشكيل الحكومات مسألة دستورية خالصة، بل صارت أسيرة حسابات الأفرقاء السياسيين، وكل يغني على ليلاه، حتى تحوّل لبنان إلى ما يشبه “حارة كل مين إيدو إلو” .
استمرّت الصراعات السياسية وبدأ الفريق المسلّح الوحيد (حزب الله) بمحاولة فرض واقع جديد في محاولة للحفاظ على المكتسبات التي نالها في زمن الوصاية، فعطّل نتائج حوار الـ ٢٠٠٦، وتسبب في حرب مدمرة (حرب تموز)، ثم أخذ بناصية التعطيل والعرقلة وابتداع أعراف جديدة لا تمت لدستورنا بصلة، وفرض وقائع تناسب دوره المنوط به إقليميًا، والبحث عن إيجاد “وصاية” أخرى تحفظ له دوره ومكاسبه، والتمسّك بشرعية “وراثة” الوصاية وتقديمها لإيران .
خرجت سوريا من لبنان عسكريا، لكنها بقيت في وجوه مختلفة، أسهمت بترسيخ نفوذ آخر تمثل بالنفوذ الإيراني، وإن كان النظام السوري يحافظ على الحد الأدني من انتظام عمل المؤسسات الرسمية، طالما بوسعه أن يأتي بأي رئيس للجمهورية وتشكيل أي حكومة، وفرض قوانين انتخابية على قياس البعض من أركان الدولة العميقة، فإن النفوذ الإيراني غير المباشر بداية والمباشر لاحقًا، عطّل كل الاستحقاقات ووضع البلاد أمام أزمات مستعصية، لم يكن الخروج منها ممكنًا إلا من خلال تسويات من هنا وأخرى من هناك، في الطريق نحو وصايات مختلفة من دول معنية، وكأن قدرنا “أن نخرج من تحت الدلف إلى تحت المزراب”.
بلا مواربة
تسع عشرة سنة مرت على خروج النظام السوري من لبنان، عسكريًا وأمنيًا، لكن “الوصاية” ماتزال متواجدة بوجه آخر، وهذا يدلّ على قصور في السياسة اللبنانية في ظل عجزها عن إدارة شؤونها كما ينبغي، وخير دليل أننا أمام كل استحقاق دستوري يبرز عجزنا عن إدارته، وبات الكباش الإقليمي الدائر بين قوى إقليمية كبيرة ينعكس على واقعنا بصورة مقيتة، إذ نحتاج دائمًا لتدخل الجهات الاقليمية لحلحلة العقد والإبقاء على لبنان أسيرًا لأجندات مختلفة.
اليوم نعيش أزمة الفراغ في رئاسة الجمهورية، ونلعب دور المتفرج على ما تديره هذه القوى، فالنفوذ الإيراني الذي يعمل على تحقيق وصاية كاملة في جهة، وفي الجهة المقابلة هناك اللجنة الخماسية الباحثة عن توافق بينها أولًا قبل الشروع في البحث عن حل لأزمتنا، مما يثبت أن لبنان منذ نشأته لم يتوصّل بعد إلى إيجاد نمط حياة سياسية متوازنة لإدارته شؤونه كـ “دولة ووطن”.
لم يكن الانسحاب العسكري السوري من لبنان حدثا عابًرا إذ أسفر عن تطورّين محوريين، يتمثّل التطوّر الأوّل في تمكن إيران، عبر “حزب الله” وسلاحه، من ملء الفراغ الأمني الذي خلفه خروج الجيش السوري، واعتبار نفسه “الوريث الشرعي” لهذا النظام، أمّا التطور الثاني، فيتمثّل في النتائج التي ترتّبت على الانسحاب في الداخل السوري، وما تلاه من دخول سوريا ونظامها في أزمة مستعصية منذ الـ ٢٠١١ وحتى اليوم .