بقلم خالد صالح
ثمّة قطبة مخفيّة حتى اللحظة في الهجومِ غير المسبوق الذي شنّه العدو الاسرائيلي على لبنان عمومًا وعلى “حزب الله” خصوصًا من خلال ما بات يُعرف بـ “عملية البيجر”، وبعدها اغتيال المسؤول الثاني في قيادة القوة الجهادية “ابراهيم عقيل”، هذه القطبة التي بدأت تكبُر وتتزايدُ نسبةُ الفرضيات حولها، وسيسيلُ حبرُ كثير عنها إضافة إلى مجموعة هائلة من الأسئلة التي تبحث عن إجابات .
بعيدًا عن النمط الأمني (تحقيقات وتقصّي حقائق ومعلومات)، لاشكّ أن المواجهة المفتوحة منذ الثامن من تشرين الأول 2023 أخذت طابعًا متقدّمًا في تاريخ الحروب، ومن دون أيّ تردّد يمكن القول أن “الأذى” الذي أحدثته جبهة الإسناد في الجنوب للعدو الاسرائيلي جعلته ينتقل إلى أنماط مختلفة بحثًا عن تخفيف الضغوط عنه، خصوصًا بعدما بات المجتمع الاسرائيلي على وشك التفكك نتيجة الفشل الذريع الذي مُنيت به حكومته في حرب غزة عقب عملية “طوفان الأقصى” .
تساؤلات مقلقة
بالرغم من حجم الاعتداء والذي وصفه محللون بـ “هجوم سيبراني” شامل ونتائجه الكبيرة بين سقوط شهداء بالعشرات وجرحى بالآلاف، وبالرغم من “شحّ” المعلومات حول طبيعة هذا الاعتداء الذي يُعتبر انتهاكًا فاضحًا للسيادة اللبنانية، وبالرغم من التساؤلات التي يتم تداولها حول عمليات الاغتيال وطرق تنفيذها،كانت التساؤلات تتصاعدُ بشكل مقلق حولَ مدى تأثير هذا العدوان على مسار الجبهة المفتوحة ومدى إمكانية دخولنا أفق الحرب الشاملة ؟.
لايزال من المبكر معرفة كيف انفجرت هذه الأجهزة بالتحديد، حيث إن التفسيرات حولَ أسبابِ هذا الأمر لا تزال تتوالى، وأبرزها أن شريحة ما تم زرعها في كل أجهزة “البيجر” قبل استيرادها واستخدامها من قبل عناصر “حزب الله”، ولايزال من المبكر معرفة مدى إمكانية العدو من السيطرة على أنواع معينة من أجهزة الهواتف المحمولة وتحويلها إلى “قنابل موقوتة”، لكن الأمرَ الأكيد أنّ نمطًا مختلفًا من المواجهة دخل حيّز التنفيذ، وأن المعارك التقليدية صارت روتينًا يوميًا أمام ما هو قادم، وما هو قادم أشدّ وأدهى .
وفي ظلّ سياق تصاعد التوتر بين “حزب الله” والعدو الإسرائيلي، خصوصًا الضربات العميقة التي ينفذها في قلب الضاحية الجنوبية، يظلّ احتمال تطوّر الصراع موضوعًا معقدًا يرتبط بعدة عوامل داخلية وإقليمية بحسب بعض المراقبين، على الرغم من أن كلا الطرفين يمتلك قدرات عسكرية كبيرة وشبكة من التحالفات الدولية، إلا أن الحسابات الاستراتيجية لكليهما تفرض حذرًا في الانجرار إلى حرب شاملة، يمكن أن تودي أيّ مواجهة كبيرة إلى عواقب وخيمة على المستويات الاقتصادية والإنسانية، ليس فقط في لبنان بل على المنطقة برمتها، لذلك يبقى السؤال المقلق هو الأهم: هل فعلًا نحن على أعتاب حرب شاملة ؟..
جريمة حرب
أجمع محللون ومراقبون دوليون أن ما حصل في لبنان يومي 17 و 18 أيلول يصنف على أنه “جريمة حرب” بامتياز، بالاضافة إلى الاستهداف المباشر للمدنيين خصوصًا في جريمة اغتيال “عقيل”، التي ذهب ضحيتها مدنيون وأطفال ونساء، وتتطلبُ تحقيقًا سريعًا ومستقلًا لإثبات الحقيقة وتمكين المساءلة عن جريمة القتل الجماعي التي مارستها اسرائيل، وبالقدر الذي ينطبق عليه القانون الإنساني الدولي، إذ لم تكن هناك طريقة لمعرفة من يمتلك أي جهاز ومن كان بالقرب منه في وقت الهجمات، ومن شأن الهجمات المتزامنة باستخدام آلاف الأجهزة أن تنتهك، بصورة حتمية، القانون الإنساني، من خلال الفشل في التحقق من كل هدف، والتمييز بين المدنيين المحميين وأولئك الذين يمكن مهاجمتهم بسبب مشاركتهم المباشرة في الأعمال العسكرية.
إن ارتكاب هكذا جريمة بهدف نشر الرعب بين اللبنانيين المدنيين وترهيبهم يُعدُّ جريمة حرب أيضًا، فالحياة اليومية في لبنان يطغى عليها مناخ الخوف والقلق، ولابدّ من إجراء تحقيق سريع وفعّال وشامل ونزيه وشفاف في الاعتداءات، توصلًا للحقيقة التي على أساسها يجب تقديم المتورطين فيها إلى العدالة وتحديدًا الجرائم المصنفة عالميًا على أنها ” جريمة حرب” .
العدو الإسرائيلي الفاقد للانسانية والذي أثبت هذه الصفة على مدى حوالى السنة من خلال ارتكاباته في غزة التي ضربت كل المواثيق والاتفاقيات الدولية عرض الحائط، ومارس الانتهاكات تلو الأخرى للقوانين الانسانية المسلّم بها، وتجاوز كل الخطوط الحمر بعد فشله في تحقيق أي هدف من أهدافه المرسومة بالرغم من عملية التدمير الواسعة التي قام بها سواء في غزة أو على طول الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، وتعرّضه لضغوط داخلية من المستوطنين النازحين من الشمال .
تفسيرات الهجوم والاغتيال
منذ وقوع الاعتداء بدأت عملية التحليل لهذا الهجوم غير المسبوق، وإذ تقاطعت المعطيات أن اعتداء الثلاثاء جاء بعد تراجع العدو الاسرائيلي عن “هجوم بري” محتمل، والذي كان سيترافق معه هجوم سيبراني، وأن استخباراته خشيت من انكشاف هذا المخطط الإجرامي فاختارت “ساعة الصفر” لتطلق هذا الهجوم خصوصًا بعدما فقد صبره نتيجة الضغوط التي يواجهها من نازحي الشمال.
ثم جاءت عملية اغتيال “عقيل”، وهو المطلوب أميركيًا منذ العام 1983، لتؤكد أن العدو افتتح حقبة جديدة ربما تكون البديل عن الحرب الشاملة، لأنه يحاول تحقيق إنجاز ما من دون الغرق في وحول “البر اللبناني”، وهو الذي اكتوى بنارها في الـ 2006 في “وادي الحجير” أو بما يعرف بـ “مقبرة الميركافا”، بما يمثل الانتقال إلى الخطة “باء”، تحقيق أهداف فردية والتقليل من حجم الخسائر لديه .
لكن الأخطر في هذا الهجوم أنه رسالة إلى “حزب الله” بأنه مكشوف أمنيًا وأن العمليات الاستباقية واردة في كل وقت، لهذا يتعيّن على الحزب إعادة دراسة طبيعة المواجهة بشكل فعّال، وهذا ما ألمح إليه أمينه العام السيد حسن نصرالله في كلمته الأخيرة ” الرد سيكون من ضمن الحلقة الضيقة، وترونه لا تسمعون عنه”، والأكيد أن المواجهة ستأخذ طابعًا مختلفًا خصوصًا من جانب العدو الاسرائيلي الذي يعيش سباقًا مع الوقت خشية المزيد من التفكك الداخلي الذي بدأ يستشعر به .