بقلم خالد صالح
بعدما أكمل “نابوليون بونابرت” سيطرته على أوروبا، توجّه غازيًا إلى روسيا لإخضاعها، وكان كلّما مرّ بإحدى المدن يصطفّ الناس على جانبي الطريق لرؤية “موكبة المهيب”، وعندما دخل الأراضي الروسية شاهد فلاحًا روسيًا منحنيًا وبيده منجله ومنكبًا على عمله من دون ملل أو كلل ولم يهتم لمرور الموكب ولم يُعره أي انتباه .
قال نابوليون لمرافقيه وحراسه: “ألا ترون هذا الفلاح “الحقير” لم ينظر إلى موكبي وبنات أوروبا يخرجن من غرف نومهن لاستقبالي والتعبير عن شوقهن لرؤيتي، وأمر :نابوليون بإحضار الفلاح، فأتوا به مغلولًا إليه فسأله نابوليون: لماذا لم تتوقف عن العمل وتنظر إلى موكبي “، فأجاب الفلاح : “لماذا أنظر إلى موكبك، أرضي أولى بإهتمامي !!، فقال نابوليون: ألا تعرف من أنا ؟، أجاب الفلاح : لا يهمّني أن أعرف من أنت، أنتَ غازٍ محتل وأحقر من أن تحتلّ بلدي !!
قال نابوليون: يجب أن تحمل اسمي معك دائمًا لتتذكرني في كل وقت، وأمر معاونيه أن يحفروا اسمه على ساعد الفلاح، فقاموا بتسخين قطعة من الحديد ووشموا اسم نابوليون على ساعد الفلاح، وعندما انتهوا من ذلك، ورغم الألم الذي كان يعتري الفلاح جراء “الكي”، أمسك منجله بيده الأخرى و “بَتَرَ” ساعده بضربة واحدة ورماه أمام نابوليون وسط ذهوله من هذا الفعل، وقال له، خذ اسمك معك ستبقى غازيًا محتلًا وعار عليّ أن أحمل اسمك معي .
عندها قال نابوليون كلمته الشهيرة : “من هنا تبدأ الهزيمة” !!
استيعاب الصدمة
من دون شكّ لقد تعرض “حزب الله” لضربات قاسية خلال الأسابيع الثلاثة الماضية بلغت أعلى درجاتها مع اغتيال أمينه العام السيد حسن نصرالله، عدا عن ثلة كبيرة من أبرز قادته العسكريين، واعتقد العدو الاسرائيلي أن هذه الضربات ستُسهم في “انهيار” المنظومة التي تقوم عليها المقاومة، وسيكون بوسعه البدء بحملة عسكرية برية تمسح منطقة “جنوب الليطاني” بالكامل، تدميرًا وتهجيرًا وضرب معاقل حزب الله فيها بالكامل.
ولأن البنية التنظيمية في حزب الله قائمة بشكل متماسك وبصورة لا ينفرط عقدها بالسهولة التي تصوّرها العدو، من الطبيعي أن تأخذ مسألة “استيعاب الصدمة” بعض الوقت، والشروع في ترتيب البيت الداخلي ومعالجة كل “الثغرات” التي أدّت إلى ما حصل، والانتقال نحو المواجهة الفعلية على شاكلة “حرب استنزاف” لا هوادة فيها، رغم التكلفة المرتفعة التي يدفعها اللبنانيون، لأن الحزب وجد نفسه أمام معادلتين أحلاهما مر، إما الاستسلام وسيقتلون قادته ومجاهديه، أو المقاومة .
الحرب بين “جيش نظامي” و “مقاومة” لا يمكن تشبيهها بحرب بين جيشين نظاميين، والأسلوب المعتمد من جيش العدو الاسرائيلي على مدار كل الحروب التي خاضها، تعتمد على منهجية صارت معروفة، غارات مكثفة عبر الطيران الحربي، أرض محروقة، تدمير وتهجير، كثافة في نيران المدفعية الثقيلة والدبابات ثم اجتياح بري، وهذه هي القواعد المتبعة لحروب الجيوش النظامية، ولأن العدو اعتقد أن بنية المقاومة سقطت وتهاوت منظومتها القيادية، اعتمد المنهجية نفسها، منتظرًا النتائج التي حققها في حروبه واجتياحاته السابقة.
دينامية جديدة
“اعرف عدوك”، العبارة الأشهر في تاريخ الحروب، ولأن خطط العدو الاسرائيلي معروفة واستراتيجياته مكشوفة، بالرغم من حجم الدمار الذي يُخلّفه، وغزة خير مثال، اتبع في لبنان الحركية ذاتها، مستندًا على أوهامه أن المقاومة صارت “فلولًا” بلا رأس ولا قيادة وأن خطوط الإتصال بين القيادة والمقاومين في الميدان انقطعت بعد عملية “البيجر” و “اللاسلكي”، فإذ به يجد نفسه أمام “حرب استنزاف” مريرة بل وجد نفسه أمام “دينامية” جديدة كانت قمتها في عملية “بنيامينا” مقر “لواء غولاني” في عمق يتجاوز الـ 70 كلم في الأراضي المحتلة .
حرب الاستنزاف هي نوع من الحروب يسعى من خلاله أحد أطراف المواجهة إلى تقويض القوة العسكرية للخصم عبرَ استنزافِ مقدراته وتكبيده خسائر بشرية ومادية كبيرة وتدميرِ معنويات الجنود بجرهم إلى دائرةٍ مفرغة من المواجهات المتقطعة، وتُعتبر حرب الاستنزاف مقياسًا لرصدِ قدرةِ طرفي الصراع على تحملِ مواجهة غير محسومة تمتد فترة طويلة، من دون آفاق واضحة للنصر أو الهزيمةْ، وفي بعض الأحيان يكون هدفها المحافظة على قدرٍ من الحيوية وعدم الاستقرار على الجبهة بما يسمح برص الصفوف استعدادا لجولة جديدة من الحرب، أو لحرمان العدو من تحقيق نصر عسكري من خلال مدَّ أجل المواجهة.
هذه الدينامية أربكت حسابات العدو خصوصًا بعدما فرغ “بنك أهدافه” ولم يعد أمامه سوى “الضرب عشوائيًا” مستهدفًا المدنيين، وممارسة “الجرائم الوحشية” التي يبرع فيها، بينما التدرج تصاعديًا في عمل المقاومة يضعنا أمام حسابات مختلفة في المرحلة المقبلة، وما يجري من أحداث على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة من مواجهات بين أصحاب الأرض والمحتل الغاصب، إلا رفض قاطع ونهائي لوجود العدو على أرضنا، هذا الرفض هو ما يمكننا اعتباره “من هنا تبدأ الهزيمة” ..