بقلم خالد صالح
لماذا سوريا الآن ؟
ثمّة “شيء مبهم” في عودة الأوضاع في سوريا لتحتل صدارة المشهد، والكثير من التساؤلات تدور حول هذا التدهور البليغ بعد مرحلة طويلة نسبيًا من الاستقرار “الهش” الذي عاشته خلال السنوات الماضية، وكأنّما هناك “قطبة مخفية” حول استعادة شلالات الدم في سوريا وهذا التهاوي السريع، وكأنها حلقة في سلسلة بدأت مع “طوفان الأقصى” وربما لن تقف عند حدود ما حصل في “حلب” ..
المشهد الحالي يؤكد أن ما عاشته سوريا من هدوء “مصطنع” لم يكن ليستمر في ضوء المتغيّرات الهائلة التي شهدتها المنطقة، أولًا بفعل تداعيات الأزمة الروسية – الأوكرانية، وثانيًا جراء الحرب المدمرة التي شنّها العدو الإسرائيلي على غزة ولبنان، وبالتالي فإن سقوط “الهيكل الخشبي” كان متوقعًا، فما شهدته سوريا منذ 15 آذار 2011 وحتى اليوم أكد أنها صارت أسيرة حروب الآخرين، ونزاعات الدول صاحبة الكلمة الفصل، وأن اللاعبين الكبار لايزالون ممسكين بخيوط اللعبة .
منذ بداية الأزمة فقدت سوريا كل مقوّماتها كـ “دولة” وصارت في مهب تجاذبات إقليمية ودولية هائلة، ليس فقط بسبب دورها كدولة محورية، بل لأن موقعها جعلها عرضة لرياح هوجاء عاتية، حاولت على مدى تاريخها الحديث أن تقفل “الباب” في وجهها لتستريح، لكنها كلما أقفلت بابًا شرّعت التبدلات المتسارعة في وجهها أبوابًا أخرى .
أطماع لا حدود لها
تسبّب التصدّع السوري بنشوء ظواهر كثيرة، لم تكن “الثورة السورية” تريدها أو تسعى إليها، ورغم أن البداية كانت مطلبية اجتماعية قبل أن تكون سياسية وتتحول عسكرية ودموية، إلا أنها سقطت نتيجة الأطماع التي لم تستطع سوريا أن تواجهها، بحكم الجغرافيا وبحكم التاريخ، فهي ومنذ تلك المقولة لوزير الخارجية الأميركية “هنري كيسنجر” عقب حرب تشرين 1973 شكلت الركن الثاني من المعادلة القائمة عليها صراعات المنطقة “لا حرب من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا”، وجدت نفسها بين المطرقة والسندان، مطرقة المواجهة وسندان السلام .
وبفعل الضغوط الكبيرة التي مورست على دمشق خلال الأزمة، وخوفًا من أن تتحوّل إلى ساحة للتنظيمات الأصولية، مع ما يعنيه هذا من تهديد مباشر للمنطقة وفي طليعتها العدو الإسرائيلي، الأمر الذي حتّم تدخلًا إيرانيا أولًأ ثم إيرانيا – روسيا في مرحلة لاحقة، للإبقاء على وجود النظام ومحدودية قدراته، واستطاع النظام بدعم مباشر من هذا “الثنائي” استعادة بعض الشيء من هيبته المفقودة، لكنه لم يستطع “وأد” ما أنتجته الثورة من واقع لابد وأن يستعيد مشهديته عاجلًا أم آجلًا ..
الأزمات المتلاحقة التي عاشها “ثنائي الدعم”، إيران لجهة عودتها إلى حلقة التضييق الدولي بعدما نسف الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الأولى مفاعيل الاتفاق النووي، وروسيا بفعل تخبطها في وحول أوكرانيا ولم تستطع الخروج منها حتى اللحظة، أسهم في شكل كبير في استعادة “الثورة” شيئًا مما فقدته سابقًا، وكما كانت النهاية في تشرين الثاني 2016 بسقوط حلب، كانت العودة في تشرين الثاني 2024 بالعودة إلى حلب، مع ما تُمثله “حلب” سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، وحتى جغرافيًا .
تركيا على الخط
وبحكم “الجغرافيا” كان لابد من دور بارز لـ “تركيا”، التي تخشى قيام “دولة كردية” على حدودها، بدأت هي الأخرى بمد يدها للداخل السوري، ليكتمل العقد الثلاثي الأبرز الذي يعمل بقوة كي لا تسقط المنطقة برمتها في شباك “المشروع الأميركي، لكن التبدلات السريعة جعل الأمور تتشابك بشكل كبير، فلا روسيا استطاعت توفير المناخات لإستقرار دائم في سوريا، ولا إيران استطاعت من بسط هيمنتها بالكامل، و لا تركيا كان بمقدورها حسم الأمور .
هذا المثلث، الذي حاول الوقوف في وجه أمواج “الربيع العربي” الذي عصف بـ “سوريا” لم يكن يملك مشروعًا بديلًا يقدمه لدمشق كي تُبقي على دورها، وسط بروز “داعش” التي من شأنها أن تُعرقل كل الخطط الرامية للاستقرار، ومدى خطورة تمكنّها من بسط سلطتها انطلاقًا من الموصل وليس انتهاء بـ “إدلب”، فسقط الربيع العربي، وتحوّلت سوريا كلها إلى ساحة للصراعات، صراعات الحلفاء فيما بينهم من جهة، وصراعات الحلفاء والخصوم من جهة ثانية .
من هنا فإن تركيا التي تسعى لبسط “استقرار على طريقتها” على حدودها، لم تنجح في ترجمة رؤيتها و بالتالي لا يمكن لها أن تتجاهل الواقع القائم بين إيران و روسيا في سوريا، فوجّهت بوصلتها نحو “الخطر الكردي” في محاولة لتفكيك محاذيره و مخاطره، و ها هي اليوم ترابض في بعض الأراضي السورية و على مقربة من بعض الأراضي العراقية، و الأهم أنها وصلت إلى ما يشبه “النهاية المرجوة” لمفاعيل الربيع العربي .
تحرير العواصم الأربعةمع بلوغ مرحلة المواجهة مع العدو الإسرائيلي في غزة و لبنان مرحلة لايمكن الرجوع إلى ما قبلها، تظهر من جديد مسألة تحرير العواصم الأربعة (دمشق و بغداد و بيروت و صنعاء) من الهيمنة الإيرانية و القدرة على صناعة القرار فيها، و لأن سوريا بما تُمثله من معبر إلزامي خصوصًا بعد سقوط صدام حسين، بدأت عملية استكمال الحرب بطريقة أخرى، ليس تقليلًا من الدور الكبير الذي يلعبه الشعب السوري المنضوي تحت “علم الثورة” و حقه في الحياة وتقرير المصير، بل لأن الواقع السياسي يفرض نفسه بقوة على مجريات الأحداث.
“أمن اسرائيل” يأتي في المقام الأول لدى الغرب، قبل صراعه مع المثلث الروسي – التركي – الإيراني، و بالتالي فإن تحجيم قدرة إيران على استخدام الجغرافيا المحيطة بفلسطين المحتلة هو الشغل الشاغل، من هنا فإن التحركات المفاجئة التي شهدتها سوريا خلال الأيام القليلة الماضية و نتائجها، لا يُمكن أن تقرأها إلا من هذه الزاوية، فهي تأتي في سياق يبدو كأنه مدروس بعناية كبيرة، تمهيدًا لوصول “ترامب” لولايته الجديدة والتي يرجّح أن تكون مختلفة عن سابقتها، لجهة وضع حد لكل الصراعات في المنطقة، و التوجه نحو معركته الكبرى مع الصين .
سوريا ليست بلدًا نائيًا، هي تقع في وسط المعادلة تمامًا، ولعبة الاستقرار فيها مطلوبة بشدة، و أي استقرار لا يراعي مصالح “الثورة” و مصالح “المثلث” وقبلهما مصالح “أميركا”، هذا يعني أن المحيط سيظلّ متخبطًا، وحدها سوريا تدفع الثمن، ثمن “عقم” نظامها، و ثمن حروب الآخرين على أرضها، وثمن أي دور لها في مستقبل المنطقة، فهل تستدرك الدول العربية خطورة المرحلة وتعمد إلى دور بارز في رحلة البحث عن الاستقرار السوري المطلوب و .. المفقود ؟..