بقلم خالد صالح
عندما شرعت “الصين” في بناءِ سورِها العظيم، سخّرت لذلك كلّ إمكاناتها البشرية والعمرانية، حتى قدّمت للعالم “اعجوبة” لاتزال ماثلة أمامنا، وكان هدفها من هذا البناء الضخم، حمايتها من هجمات الأعداء المتربّصين بها شرًا .
لكن !!، وبعد إنجاز هذا السور وركون الصين لمنطق الأمان الذي وفّره هذا البناء، تعرّضت الصين لثلاث غزوات قاتلة، ولم يكن الغزاة بحاجةٍ إلى “خرق السور” أو تسلّقه أو تدميره، جلّ ما في الأمر أن الغزاة استطاعوا “رشوة” أحد الحراس المكلفين بحماية أحد المداخل، لذلك كان من السهولة عليهم فتح الأبواب والدخول.
قدّمت الصين في تلك الحقبة “أعجوبة” معمارية هائلة، وقدّمت لبناء هذا السور كل ما تملك من مقوّمات، لكنها غفلت عن بناء “الإنسان”، ولم تُحصّنه بالحياة الكريمة ولا بالقيم والمبادىء، فلم ينفعها هذا السور ولم يمنعها من التعرّض للغزو والقتل والتدمير، فالإنسان هو الأساس، وهو الذي يُعوّل عليه لبناء الأوطان وحمايتها ووضعها على سكة التطور والعمران .
عودٌ على بدء
منذ أن وضع العدوان الإسرائيلي على لبنان أوزاره، مخلّفًا كارثة حلّت على البشر والحجر في هذا الوطن، عاد الحديث مجدّدا عن مسألة إنتخابات رئاسة الجمهورية إلى واجهة الأحداث، وتصدّرت عبارة “رئيس توافقي” العناوين السياسية والاعلامية وحتى “الحارات والزواريب”، فمنذ أيام أنهى لبنان الشهر الخامس والعشرين على إحتلال “الفراغ” قصر بعبدا، وسط تشابك داخلي لم يُسفر إلى صيغةٍ لملء الشغور، وعجز إقليمي – دولي (اللجنة الخماسية) عن وضع تصوّر ما للخروج من هذه المعضلة.
“رئيس توافقي”، غريبٌ أمرُ هذه العبارة ومدهشة في آن، من هنا يأتي السؤال الجوهري: هل يوجد في لبنان شخصية أيّا تكن يُمكنها أن تكونَ “توافقية” وتملكُ حيثية سياسية أو غير ذلك لتقفَ في منتصفِ الدائرة بين جميع الأطراف وتحظى بلقب “توافقي”؟، وهل حقًا هذا ما نريد لرئاسة الجمهورية “رئيس توافقي” لا طعم له ولا لون، محكومٌ مسبقًا بالتوازنات القائمة وبالتجاذبات والاشتباكات السياسية التي تفرضُ وجودها على البلاد منذ عقدين؟.
“رئيس توافقي” مثل الذي يبحث عن “إبرة” في كومة قش، وما هذه العبارة إلا كـ “حقنة مورفين” نُخدّر أنفسنا فيها ريثما ينجلي الضباب الرمادي عن المشهد الاقليمي، في لبنان لن تجدَ شخصية سياسية مرموقة من دون “ولاء سياسي” معيّن حتى لو عاطفيًا !!، في لبنان عبارة “الكلّ للفرد والفرد للكلّ” غير موجودة على الإطلاق، لذلك فإن طرح هذه الفكرة مجرد “عود على بدء” للكباش والتعطيل وتطيير النصاب ..
مجلس نيابي أعرج
عندما ولد المجلس النيابي الحالي في ربيع 2022، سارع البعض إلى التفاخر والتباهي بأن الأكثرية انتقلت من ضفة إلى ضفة، وبعد عدة شهور اتضحت “خارطة” المجلس بأنها “طبخة بحص”، لا أكثرية واضحة ولا من يحزنون، عبارة عن “سيارة جديدة” من دون إطارات، وها هو وبعد مضي سنتين ونصف على ولادته لايزال يراوح مكانه، وكيف له أن يتحرك وهو بلا عجلات؟.
لقد كشفَ المجلس الحالي عن “عُقمٍ” كبير وخطير، وهو بمثابة “حصان أعرج” تُراهن عليه القوى المتابعة والمراقبة في “السباق الرئاسي”، فإذا كانت القوى السياسية المعروفة والمتناحرة عاجزة عن تحديد “المواصفات” التي يجب أن يتحلّى بها “الرئيس التوافقي”، فهل بوسع تركيبة المجلس “الهجينة” أن تُحقق ذلك ؟، وإن كانت الأحزاب الرئيسية تحاول إظهار نفسها أنها متماهية مع هذا الطرح “قاصرة” بامتياز أن ترسم مسار “التوافق” فهل بمقدور الذين يُطلقون على أنفسهم تعبير “المستقلين” أن يبلغوا هذا الهدف ؟ .. واعجبي !! ..
التوافق يعني الالتقاء في المنتصف على عناوين وبرامج محددة، فكيف يحصل هذا، وفريق يُريد رئيسًا “سياديًا” وفريق يريد رئيسًا “يحمي ظهره”، وفريق يُريد رئيسًا “محاربًا” للفساد وللفريقين السابقين معًا، وعلى قاعدة المثل الشعبي “حلّها إذا بتنحل”، حتى “قائد الجيش” الذي حاول كثيرًا أن ينأى بنفسه عن هذا التشابك لم يعد بوسعه أن يصل إلى رتبة “رئيس توافقي” نظرًا للفيتوات التي صارت في طريقه من أكثر من طرف .
المضحك المبكي
في كتاب “كليلة ودمنة” لابن المقفع رواية تقول “إن الحمار فتح مذكرة يومياته وكتب فيها، أنا لا أعرف كم من الزمن مضى على رحيل الأسد، ولكن وصلت في نهاية عمري إلى قناعة راسخة لكنها قاسية ومؤلمة، مفادها أن دكتاتورية الأسد أفضل من حرية “القردة” و “الكلاب”، فهو لم يكن يستعبدنا بل كان يحمينا من “قرود” تبيع نصف الغابة من أجل الموز، و “كلاب” تبيع نصفها الآخر من أجل العظام”.
يومًا بعد يوم تُثبت تفاصيل أيامنا السياسية أننا “قاصرون” عن قيادة أنفسنا، حتى بتنا نترحّم على زمن الوصايات، البعض يرفع شعارات السيادة والحرية وهو ينتظر “التعليمة” من هذه السفارة أو تلك، والبعض يتكمّش بأجندات إقليمية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، والبعض “يناوش ويهاوش” بصوت مرتفع وهو أشبه بـ “براقش” التي جنت على نفسها من كثرة نباحها .
وأراني أستذكر ما قاله الفيلسوف العربي الكبير ابن خلدون “عندما تكثر الجبايات تُشرف الدولة على الانهيار، وعندما تنهار الدول يكثر المنجمون والمتسوّلون والمنافقون والكتبة المأجورون، وشعراء البلاط وضاربو “المندل” وقارعو الطبول وقارئو الكف والطالع والنازل والمتسيّسون والمداحون والهجاؤون والانتهازيون، وتسقط الأقنعة ويضيع التقدير ويسوء التدبير ويختلط الصدق بالكذب، ويتحوّل الصديق إلى عدو والعدو إلى صديق ويعلو صوت الباطل ويخفت صوت الحق، وتظهر على السطح وجوه مريبة ويصبح الإنتماء إلى القبيلة أشدّ التصاقًا والانتماء إلى الوطن ضرب من الهذيان” ..
“رئيس توافقي” .. طبخة بحص وستبقى ..