كتب سامر زريق في “نداء الوطن”:
يمتلك “حزب اللّه” قدرة مدهشة على ممارسة “الجمباز” الإيديولوجي، والانتقال برشاقة من الفكرة إلى نقيضها، وفق تأويلات عقائدية مسبوكة يعمل على الترويج المنظم لها، من خلال مزيج من الأدوات الإعلامية يحوزها في ترسانته، ويبرع من خلالها في التأثير بالرأي العام. أخطر هذه الأدوات هي الشائعات، التي لطالما أجادت الأحزاب التوتاليتارية والأنظمة الشمولية توظيفها بما يخدم أهدافها في تشويه شخصيات أو دول بعينها. هذا السلاح اكتسب مديات أخطر وأوسع تأثيراً في عصر شبكات التواصل الاجتماعي والأخبار المضلّلة “Fake News”، والتي صارت من الظواهر السلبية المؤثرة، التي تكابد الحكومات والدول لمكافحتها.
قبل أيام قليلة فقط من عاصفة “البيجرز”، كان إعلام “حزب اللّه” يروّج لوجود مناخ تكفيري في مدينة طرابلس يهيمن على المساجد والثقافة العامة، ويمارس القمع والاستبداد بحق مخالفيه من أصحاب الفكر الوسطي. في حين أنه هو نفسه كان يقود عملاً فتنوياً بامتياز على ضفاف جبهتي خامنئي “الحسينية” و”اليزيدية”، يُراد من خلاله إحداث شرخ ديني عميق في الساحة السنية.
خلال شهري العاصفة، مارس “الحزب” “جمبازه” الإيديولوجي بخفة، محوّلاً أهل طرابلس والشمال إلى رمز للوطنية والإيثار، لحاجته إليهم في استيعاب موجات النازحين، ولرَتْق الفتنة السنية – الشيعية، التي غسل يديه منها واتهم الغرب إياه ببثّها، وسعياً لخلق “وحدة إسلامية” مصطنعة ضد من يسوق بأنهم “صهاينة الداخل”.
غداة الهدنة المذلّة التي وقّعها، سطّر “الحزب” عبارات شكر وعرفان جميلة بحق السنّة، وما كاد حبرها يجفّ، حتى قام بنقلة جمباز أخرى، استعاد فيها خطابه التكفيري، على وقع التطوّرات في سوريا، والتي زادت حدّة عقب سقوط حليفه “طاغية الشام”. كمٌّ هائل من الأخبار المضلّلة، التي تتحدث عن أعمال قتل وذبح بحق الشيعة والعلويين، وتروّج بأن إقامة “الإمارة التكفيرية” في الشمال “على قاب قوسين أو أدنى”.
يضاف إلى ذلك ما يتمّ تناقله عن تصفية العلماء السوريين، بطريقة تشعر المرء أنه كان بجوار “يابان” ثانية، فيما لم تكن سوريا بكل عراقتها سوى “سجن كبير” أنشأه نظام يحتقر الشعوب ويزدري العلم والعلماء. ولا ريب أن انكسار “الهلال الشيعي” بنسخته “الولائية”، الأكثر تطرفاً في تاريخ الشيعة “الإثنا عشرية”، كان أكبر من طاقة المنظومة الثقافية والإعلامية الممانعة على الاحتمال، بعد أن رأت المجد الذي بُني خلال سنوات، عبر سيول من الدماء، ينهار في أيام معدودة.
لذا، فإن الخطر يكمن في نقلة “جمباز” أخرى، تدفع “الحزب” نحو تبنّي استراتيجية تفجير الوضع الأمني في الساحة السنية، حيث يمتلك العديد من الأدوات لفعلها، عبر “سرايا المقاومة”، أو زمر من رجال العصابات التي يُسبغ عليها حمايته، مستفيداً في ذلك من حالة “الرخاوة” السياسية السائدة عند السنة، وهشاشة تأثيرهم الإعلامي، والتي أفسحت المجال أمام نشوء إعلام موازٍ، لديه تأثير لا بأس به في تحريك “العصبية” السنية، إنما فئة واسعة منه على علاقة عميقة بـ “محور المقاولة”، وينشط في عملية الترويج السلبي، بما يصبّ في نهاية المطاف في خدمة أهداف “حزب اللّه”. ومنها ما هو حاصل مؤخراً في حالة التماهي الجماهيري السني مع سقوط “طاغية الشام”، والسعي لتحويلها إلى عمل ميداني ثوري، يتوسّم توظيف مظلومية معينة، أو قضايا تلقى قبولاً شعبياً واسعاً.
هذه الاستراتيجية تمكّن “حزب اللّه” من خلق تحدّيات معقدة، تسهم في تقويض مناخ التأييد الشعبي والدولي لترشيح قائد الجيش العماد جوزيف عون لرئاسة الجمهورية، وإرباك النخب السنية ودفعهم نحو خطاب دفاعي، وتعيد الزخم لأسطورة دفاعه عن المسيحيين والأقليات في وجه التكفيريين، ما يمنحه المساحة اللازمة لإعادة إنتاج نفوذه على القرار السياسي.
لذا، فإن واحداً من أبرز التحدّيات في الوقت الراهن هو في ترجمة المناخ السيادي في الساحة السنية، وتوقها للخلاص من إسار الممانعة، عبر حالة سياسية تتبنى خطاباً أكثر جرأة وشجاعة، يتلاءم مع التحوّلات التاريخية التي نعيشها، ويساعد على ترميم ثقافة الدولة.