بقلم محمود قيسي – ديموقراطيا نيوز
قال الشاعر الجاهلي النجدي بشر بن أبي حازم:
“أراقب في السماء بنات نعش
وقد دارت كما عطف السوار”
ويقصد أنه سهر طيلة الليل إلى أن دارت بنات نعش في آخر الليل، وبنات نعش (الكبرى والصغرى) اسم مجموعة نجمية من 7 نجوم؛ تمثل 4 منها النعش، وتمثل الأخريات بناته يتبعنه، وهي اليوم تعرف بالدب الأكبر والدب الأصغر، ووظف الشاعر بنات نعش لأنها لا تغيب على عكس النجوم الأخرى، وهو ما تنبه إليه الشعراء كما أشارت الكاتبة المغربية سناء القويطي.
يقال ان السنن الكونية الثابتة أو النواميس الطبيعية الحاكمة: هي سنن التدافع في العالم المادي وفي نظام الكون وتركيبه وحركته ومجرياته، وتسمى الآيات الكونية، وآيات الآفاق، وسنن الطبيعة من السنن الكونية الثابتة (سنة التدافع)، فهو صراع مستمر بين نقيضين في محاولة كل منهما غلبة الآخر، الليل/ النهار، المد/ الجزر، القديم/ الجديد في ثنائية قطبية تعكس جدلية قوانين الحياة والديناميكية التي تدفع عجلتها وصيرورتها وتبدلها (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)..
من سنن الكون التغيير؟ التغيير سنّة حتمية من سنن الحياة، وهو واقع يجب أن نعيشه ونتقبله بل ونسعى إليه في مختلف مجالات الحياة سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو البيئية أو المعرفية، وأن نعمل على الاستفادة منه في الانتقال من الواقع الحالي إلى مستقبل أكثر إشراقاً وتميزاً.
فلسفة الألماني هيغل تقوم على الجدلية أيضا، فيصبح التناقض في فلسفته هو المحرك الأساسي للتاريخ والفكر. فالديالكتيك الهيغلي قانون يتحكم في الكون والطبيعة، فالفكرة تولد ويولد معها نقيضها جنينا في بطنها يكبر ويصارعها حتى تتكون من الاثنين فكرة جديدة تزيح القديمة وهكذا يتقدم العالم ويتطور.
كثر من تأثر بجدلية هيغل بشكل أو بآخر، من ضمنهم فرويد في نظرية (قتل الأب) أو النماذج العليا الأولى كشرط لولادة الجيل الجديد، والتي عبر عنها فرويد من خلال أسطورة (أوديب).
لذا عندما تدهشنا أصوات نشاز تخرج من مؤسسات التزمت أقصى يمين الوقار والتزمت، لتقدم طروحات تشط فيها إلى أقصى يسار التطرف.. عندها نعرف بأن السنة الكونية في التدافع قد دخلت المكان لتحقق أهدافها، أو ما سمّاه هيغل (مكر التاريخ).
والتاريخ يحتشد بالأخبار التي كان يمارس فيها مكره متوسلا البشر كأداة، فهيغل يذكر (إن أبطال التاريخ انفعاليون: فلا شيء عظيما يحدث دونما انفعال) ومن هنا نجدهم عبر انفعالهم يصبحون أداة في يد التاريخ ليحقق أهدافه. على سبيل المثال من وسط ظلمة الكنيسة القروسطية المظلمة الباردة المطوقة بمحاكم التفتيش، واليقينيات المطلقة المعطلة لمغامرة العقل البشري، الموقدة لحملات حرق الساحرات.. ظهرت: الرشدية اللاتينية.
فمن داخل أروقة جامعة السوربون العريقة خرجت إرهاصات عصر النهضة، وهي الجامعة التي تأسست في عام 1253 على يد روبرت دي سوربون، أحد القساوسة البارزين في الكنيسة الفرنسية الكاثوليكية وكانت تتميز وقتها بالصرامة والانغلاق وتضرب حصاراً شديداً على أيّ ممن يحاول أن يخرج العلوم والمعارف البشرية عن كتب اللاهوت الكنسي، (وهو المشهد الذي صوره كأبدع مايكون الروائي الإيطالي أمبرتو أيكو في روايته الشهيرة…اسم الوردة).
رغم الحصار فإن مجموعة من طلاب تلك الجامعة أطلق عليهم (الرشديون الباريسيون) تشربوا شروحات الفيلسوف العربي ابن رشد على كتب ارسطو وقاموا عبر تلك الترجمات بتسريبها إلى المدونة الفكرية الأوروبية واستعادة العقلانية الأرسطية في مؤلفاتهم وشروحاتهم في القرن الثالث عشر الميلادي. وبدأ من هناك عصر الأنوار وفصل جديد من تاريخ العقل والفلسفة في الغرب.
مارتن لوثر، وهو راهب ألماني ولد عام 1483، ومن قاد الانشقاق البروتستانتي عن كنيسة روما، اعترض على الكثير من الممارسات الكنسية، من أبرزها صكوك الغفران. نشر رسالة شهيرة مكونة من 95 بندا اسمها (لاهوت التحرير) عندها طلب البابا ليون العاشر بطرده وحرمانه كنسياً، وإدانته مع كتاباته بوصفه مهرطقا وخارجا عن القوانين الكنسية.
بينما الآن أصبح يحظى بتبجيل كبير وتصنفه أوروبا كأب لحضارة العقل، وقادح جذوة مشاعل عصر التنوير. النماذج السابقة هي مقتطف سريع يثبت بأن الفكرة دوما تحمل بذرة نقيضها داخلها، كجزء من سنن التدافع الإلهية في الكون.
هل نحن في عالمنا الحالي الذي نعيش صراعات وحروب ومآسي ومهازل متعددة واقطاب من مشارق الارض ومغاربها وجهاتها الاربعة.. اقطاب متصارعة ومتسارعة على الريادة والقيادة والمقعد الاول وإلغاء الاخر واحتكار الارض وشعوبها ومخلوقاتها وكائناتها الطائرة والسائرة والزاحفة ألى أقدارها.. المستعجلة الى نهايتها قبل أوانها واقدارها..؟!!