لم يعد أمام الإدارة الأميركيّة متسعاً من الوقت، فإمّا أن تقدم على حوار مع إيران ينتهي إلى تفاهمات كبرى. أو.. تحزم وتقدم على استخدام “العصا” بديلاً عن “الجزرة” لتطبيع الحلفاء، بما يتوافق ومصالحها.
الوقت ضاغط، والإنتخابات على الأبواب. والمجتمع الأميركي مأزوم، تُشظّي صفوفه إنقسامات خطيرة، وتنال من تماسكه.
والعزلة الدولية تزداد وطأة. والعقوبات التي فرضتها على دول، وكيانات، فاقمت من الأزمات، من دون أيّ مردود إيجابي. ورياح أوكرانيا لا تهبّ وفق ما تشتهي أشرعتها. ورياح غزّة أسقطت عن رأسها الصولجان، وعرّتها من ورقة التين في ما يتعلق بحقوق الإنسان، كونها الشريك في المجزرة، وأطفال غزّة شهود.
ما يجري بين واشنطن وتل أبيب أبعد من توزيع أدوار. إنه تباين جدّي حول الأولويات، يقول الرئيس جو بايدن إن “غزّة فلسطينيّة”، فيردّ عليه التطرف الإسرائيلي بالإصرار على تقطيع أوصال القطاع، وتهجير سكانه. تسعى الإدارة الأميركيّة إلى “مسكّنات” في الجنوب تمنع من امتداد “الفوضى الخلاّقة”، فيردّ عليها التطرف بالإصرار على تغيير قواعد اللعبة.
أوفد الرئيس الأميركي مستشاره آموس هوكشتاين، لإطفاء الحريق، فالتقى في تل أبيب بنيامين نتنياهو، ووزير حربه يوآف غالانت، وزعيم المعارضة بيني غانتس، وعرض خريطة طريق تبدأ “باستكمال الإنسحاب من شمال قطاع غزّة، وتحريك ملف المفاوضات من جديد حول تبادل الأسرى، وانسحاب الاحتلال الإسرائيلي من مزارع شبعا، وبلدة الغجر، يقابل ذلك وقف لإطلاق النار، وانسحاب قوات حزب الله من جنوب الليطاني، أو أقل قليلاً، وتبدأ مفاوضات حول بقيّة الخلافات على النقاط الحدوديّة”.
وفي الوقت الذي أعرب فيه عن تفاؤله بإمكانية نجاح مهمته، نشر موقع “واللا” خبراً مفاده أن جنرالات “إسرائيليين” وجهوا رسالة إلى هيئة أركان الجيش، والقيادة السياسيّة، مفادها “حان الوقت لتغيير سلّم الأولويات، والإنتقال من التركيز على الجنوب (قطاع غزّة) إلى الشمال (جنوب لبنان)، وتغيير أهداف الحرب من معركة دفاعيّة محدودة، إلى معركة دفاعيّة فتّاكة، وتنفيذ هجوم محدود”. وقالوا إنه “يجب جباية ثمن أكثر إيلاماً من حزب الله، ونقل الضغط إلى ساحته”.
ونقلت صحيفة “واشنطن بوست” الأحد الفائت عن مسؤولين رسميين أميركيين قولهم إن نتنياهو “قد يسعى إلى توسيع الحرب على عكس نصائح الإدارة الأميركيّة، وذلك كأساس لبقائه السياسي على خلفيّة انتقادات إسرائيليّة واسعة لإخفاق حكومته من منع هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر”.
يحاول نتنياهو في سنة الإنتخابات الأميركيّة أن يخيط ثوباً إسرائيليّاً فضفاضاً “مبهبطا”، تتعارض مواصفاته مع المقاييس الأميركيّة. لم يقدّم لغاية الأن تصوّراً منطقيّاً لليوم الثاني في غزّة. يصرّ على تهجير أهلها إلى سيناء، أو إلى الكونغو حيث تجري مفاوضات. وزير حربه غالانت قدّم خطة كان قد أعدها عضو “معهد بيغن ـ السادات للدراسات” في جامعة بار إيلان، مردخاي كيدار، مستلهمة من “مشروع الإمارات”، وتقضي بإقامة ثماني “إمارات فلسطينيّة” في الضفّة الغربيّة مرتبطة بحكم العشائر والعائلات، إضافة إلى “إمارة” غزّة التي نشأت قبل عشر سنوات، وتحكمها “حماس” منذ حينه. واستندت الدراسة إلى النموذج الناجح لدولة الإمارات العربيّة المتحدة، وبموجبها فإن “إمارة الخليل” تحكمها العشائر الكبيرة، وأريحا لعائلة عريقات، ورام الله لعائلتي البرغوتي والطويل، ونابلس للشكعة والمصري، وهكذا…!
وكما غزّة ، كذلك الجنوب، وليس من مساحة تفاؤل سوى عند هوكشتاين الذي يؤكد على “أن الطرفين يفضلان المفاوضات السياسيّة على العمليات العسكريّة”، لكن التفضيل يبقى نسبيّاً، لأن المتطرّفين في تل أبيب يناشدون حكومتهم العمل بـ”روح الظروف الجديدة” التي خلّفها هجوم “حماس” في السابع من تشرين الأول الماضي، وشن حرب محدودة على لبنان.
هل يفعلها نتنياهو؟ إنه يراهن على عامل الوقت، يريد حرباً مفتوحة غير مرتبطة بمهل زمنيّة، يريد تصعيداً متحرّراً من كل الضوابط. ويريد الدفع نحو جرّ المنطقة إلى مواجهة أميركيّة ـ إيرانيّة لتحقيق أهداف “إسرائيل الكبرى”.
أمام هذا الجنوح، تكاملت مهمّة كلّ من وزير الخارجيّة الأميركي أنتوني بلينكن، ومستشار الرئيس بايدن لشؤون الطاقة آموس هوكشتاين، والمسؤول عن السياسة الخارجيّة والأمن في الإتحاد الأوروبي جوزيب برويل. إنها مهمّة متعددة الأهداف.
الأول، منع حكومة نتنياهو من الهروب من “استحقاقات” غزّة، ومتطلبات “اليوم التالي”، إلى الجنوب عن طريق توسيع دائرة الحرب.
والثاني، منعه من تمضية الأشهر الستة الأولى من السنة بالمماطلة، دون الرضوخ لمطالب الإدارة الأميركيّة، حتى إذا ما انقضى تموز، تبدأ العطلة الصيفيّة، وبعدها مباشرة الانتخابات الرئاسيّة، وبذلك يكون قد استغل الإدارة الحاليّة إلى أقصى الحدود من دون أن يقدّم أي تنازلات يراها “مضرّة لمشروعه الإحتوائي ـ التوسعي”.
أما الهدف الثالث، سعي مخابراته إلى تفعيل الفوضى حول باب المندب، لجر المجتمع الدولي إلى مواجهة مفتوحة مع إيران بهدف إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط وفق خرائط جديدة.
يبقى السؤال: هل ترضخ واشنطن لرغبة التطرف الإسرائيلي في تغيير خرائط في المنطقة، أم تذهب إلى مفاوضات مباشرة مع إيران تفضي إلى تسويات كبرى؟