حسّان فلحة – النّهار
كتب المدير العام لوزارة الاعلام د. حسان فلحه في “النهار”:
إنّ اختلاق الآسية والسلوان والعيش ما بعد الحياة وإبداع البقاء السرمديّ هي الفكرة الأقدم حضوراً في عمق العقل البشريّ والأكثر ركونًا، راودت الحي الذي يموت، بذهول ومواربة على امل افتراضي أنّه عائد إلى حياة أخرى، منذ الولادة الأولى أو الخلق الأوّل، أو كأنّه لا يموت ليموت، بل ليبعث مرّة أخرى على مآلات متعدّدة المراتب صنّفتها الأديان السماويّة وثقافاتها تصانيف شديدة الالتباس، متنوّعة التأويل، وأعادت ترتيبها الأديان الأخرى ومعتقداتها كأحد عنصريّ جوهر الوجود.
يحار الإنسان في فهم وجوده وغيابه، ويتلمّس إيمانه ومعتقده في القبول والإذعان من باب القدرة المتواضعة على استيعاب الأشياء الحائرة والسعة المترامية أبعد من مداركه في التيقّن أو الركون. ويتيه في فهم غيبيّاته لولا الاستعانة بالحضورين الاعتقاديّ والدينيّ بالغيّ التنوّع وكثيري التفاصيل.
علّة الموت، هي الحياة، أساس وجوده. مَن سابق من؟ من الآتي؟ ومن الراحل؟ الحقيقة لا أحد يحسم الحقيقة ؟ ولكن قد يكون الأسف الأكبر، والخيبة الكبرى أنّ الحياة وضعت في مدار الموت أو تبرّر حدوثه، مَن الأولَى على من؟ ومن نهاية المطاف؟ لا احد يجزم ما يزعم؟ هي أسئلة وجوديّة طرحها الإنسان، الذي لم يرعبه امر أكثر من الموت، هو الخوف المستطير، والحزن الموعود هو القلق الأكبر، هو الارتجاف الذي ينتاب كلّ كائن حيّ. كم من ديانات قامت على عقيدة ما بعد الموت، هل هي الحياة أم الخلود؟ وما الذي يفرّق بينهما؟ وما الذي يفصل؟ الحساب الموعود على أفعال قدرية أو أعمال إدراكية مخيرة، لماذا نعتقد أنّ اللذة في القعر، واللذة في النهاية هي رعشة أو ضحكة أو تنهيدة، هي نهاية على أمل بداية جديدة، ما هذه البداية؟ ما تلك النهاية؟ الأجوبة المستحيلة للتساؤلات السرمديّة.المرء مخبوء بغموضه، والمرء يحوم حول ما لا يرى، وهو يصنع عوالمه، كلٌ له عالمه وكلّ له رؤياه، إمّا بالسليقة وإمّا بالفطرة المشوّهة أو المشوّشة بثقل التقاليد والمعتقدات.
صحيح أنّ الموت متشابه، فيه ومعه أعلى درجات المساواة، وربّما درجات العدالة، إلاّ أنّ الحياة تختلف بين شخص وآخر، بين كائن وآخر، ولا شيء يشبه شيئاً آخر، حتّى أنّها بصمة وجوده الخاصّة به وحده من دون سواه، هي حمضه النوويّ أو المنوي لا فرق، المرء أسير معتقدات ولد على فطرتها، إلاّ الذي يحاول أن يتمرّد على بقعة صغيرة في هذا العالم اللاّمحدود، ويعود كالآخرين خائباً من الإجابات الإدراكيّة، حيث يصاب بخيبة العجز عن فهم أسرار الوجود.
لا شكّ في أنّ الإنسان هذا المخلوق الفريد السامي على المخلوقات كافّة، كما ينتاب تفكيره المتعالي، أو كما صوّر حاله أو اعتقد أنّه التام بين المخلوقات في هذه الدنيا، بسيط أمام الموت، مجهول، غريب، وحيد، مأسور أو أسير.
من قال إنّ التوالد والتناسل ليسا شكلين من أشكال التخلّي؟ فعندما يخلع الحيّ جسده ويرحل عن روحه، أليس هذا نوعاً من أنواع الخيانة المشهودة في فطرة الإنسان؟ و طبيعة الإنسان تلك؟ والإنسان عرف الأشياء بكليّتها، إلاّ أنّه لم يفقه حاله ككائن ميت على قيد الحياة، ولم ينجه الحذر من القدر.
ما يلفتني في اللغة العربية أو في اللغة الأجنبية أنّ الشخص يُصوّر كأنّه فاعل موته، أو هو من قام بفعل الموت، وهو بريء من هذا الفعل الذي يلحق به، وهو مفعول به، لا بل مفعول مطلق به. واللغة ألصقت به تهمة الموت، وهذا نوع من التكاذب الجدليّ قد يكون هذا من باب القدر، الذي يرتضيه أو ينسب إليه، أنّ الموت حقّ أو من باب تقبّل وقْعِ هذا الحدث الذي يتعاقب، كما تتعاقب الأرض على مسار الشمس.
هذا القدر المكتوب، وأي قدر أكثر وضوحاً وتبياناً من هذين الحدثين، الحدثان التليدان، اللذان هما بداية وجود الإنسان ونهايته قبل الميعاد وبعد الخلود. مَن قبل؟ ومن بعد؟ من من أجل من وجد؟ الإثنان وجدا من أجل كائن حيّ أو كائن ميّت؟
يبقيان ويرحل وقد لا يعود. ما سرّ هذا الوجود الذي ينتابه القلق، القلق من شظف الحياة وتعقيداتها، والقلق من سكرة الموت، والقلق من الآتي، والقلق من النهاية، إلاّ أنّ المحزن هو ألم الفراق، الذي لا ألم بعده، وإلاّ لما خضعت الأديان، كلّ الأديان، إلى فكرة اللقاء مجدّداً لتخفّف من ألم الفراق وتواسي خوف الإنسان وقلقه، فلربّما نلتقي أو أن حبيباً يلتقي حبيبه في بقعة ما من هذا الوجود أو من هذا الكون، إنّه الحب ذروة اللقاء ومنتهاه سبحان الله، من هو هادم اللذات؟… في هذه الحياة، كلّ شي يموت، إلاّ الموت يبقى حيّاً.