بقلم جوزاف وهبه
.
لم يعد هناك من حدث أو فعاليّة أو إحتفال كما كان، حتى ولو بقي العنوان “معرض الكتاب”، حتى ولو بقي المكان “الرابطة الثقافية”.ثمّة تحوّلات كثيرة في الشكل وفي الجوهر، تجعل من الحدث أقرب إلى الهذيان، منه إلى السؤال المقلق:هل ما يدور من نشاطات حول المعرض تؤشّر إلى إتجاهات نحو الحداثة والتغيير عبر الثقافة والكتاب، تحت عباية الرابطة التي لعبت دوراً تاريخيّاً في حياة طرابلس والشمال، كما لعبت دوراً مؤثّراً في الصراع الذي طالما دار بين الإقطاع والنخب المجدّدة، بين التقليد والحداثوية السياسية والفكرية والثقافية والإجتماعية..أو باختصار، لم يعد شيء كما كان؟
نعود إلى الحدث الأبرز:المعرض الخمسون للكتاب الذي أطلقته منذ حوالي النصف قرن الرابطة الثقافية التي شهدت مراحل مشرقة من الحراك السياسي والثقافي، والذي ظهر في أرقى تجلّياته من خلال ما سمّي، خلال الحرب الأهلية الطاحنة، التجمّع الوطني للعمل الإجتماعي، والذي تصدّى بكفاءة عالية لمشاكل المواطنين اليومية، وللإشكاليّات السياسية المحتدمة، وللأداء الثقافي الخلّاق والنقدي المعارض..ماذا نجد بعد من كلّ هذا في المناسبة الخمسينية الجارية؟

بداية، راعي الإحتفال، أو ممثل هذا الراعي الذي صودف أنّه وزير الثقافة محمد وسام المرتضى الذي يحمل على جبينه “وصمة” منع فيلم “باربي” بحجّة الترويج للمثلية الجنسية، وهي الحجة التي نفاها قرار الأمن العام، مخالفاً إجراء الوزير، وسامحاً بالعروض على الشاشات اللبنانية، حيث اكتشف الذين حضروا الفيلم أنّه لا مثليّة، ولا مخالفة للعادات والتقاليد، ولا دعوات للخروج على مفاهيم التربية والعائلة..سوى في “عقل” الوزير الآتي من ثقافة بالية من موروثات آلاف السنين، والتي تقوم على استسهال الحذف في الفنّ والثقافة، وعلى القتل في الخلاف والإختلاف السياسيين:فكيف يمكن الجمع بين هذا النوع من العقول الإلغائيّة وبين رعاية حدث بحجم معرض للكتاب؟ التحجّر والتنوّع لا يلتقيان، وإذا ما التقيا (كما في معرض الرابطة) فهذا يشير إلى “خطب ما”، أمّا أنّ فكر معاليه قد تفتّح وتنوّر بسرعة الضوء (وهذا لم ولن يحصل)، وأمّا أنّ الثقافة التي يرعاها قد باتت باهتة مدجّنة، أي تخلّت عن وظيفتها الأصل:إدانة الوزير وعقلية الوزير والعقلية السائدة في السياسة وفي المجتمع..فهل لا زالت نشاطات الرابطة، كما كانت في عصرها الذهبي، تقوم بهذا الدور التغييري الجريء؟

لنأخذ مثلاً ثانياً عن التناقض الصارخ بين الحدث الثقافي وبين العقل الذي بتنا نقبل أن يكون الراعي، مهلّلين له ومصفّقين، ومتزاحمين لالتقاط الصورة معه، بعيداً عن الوعي بأنّ مَن يعتمد سياسة “التحريم والتحليل” في معظم الأوجه الحياتية والوطنية لا يليق به أن يكون محور اهتماماتنا في العمل الثقافي:في بيروت أعلن مسرح “مونو” أنّه ألغى عروضاً لعمل فنّي للمخرج اللبناني – الكندي وجدي معوّض، بعد إخبار قضائي في حقّه، على خلفيّة اتهامه بالتطبيع مع إسرائيل..وبالطبع ترافقت الشكوى مع تهديدات جديّة تلقّاها بعض الفنانين والفنيين، حيث أسف “مونو” في بيانه لإعلان إلغاء العرض العالمي لمسرحية “وليمة عرس عند رجال الكهف”، ولا شكّ أنّ “رجال الكهف” هم الذين أصدروا قرار التحريم (تارةً الحجّة هي الترويج للمثليّة، وطوراً الحجّة هي التطبيع مع العدو الإسرائيلي)، فهل أدّى الوزير مرتضى وظيفته في حماية العمل الثقافي، وفي حماية الفنانين والفنيين، أم أنّه قد انتصر لمفاهيم وادعاءات “أهل الكهف” الذين يمثّلهم في الحكومة العتيدة، ومن الطبيعي أن يمثّل ثقافتهم وإرادتهم في منع نور أشعّة الشمس ووهج ضوء القمر؟..

لم يعد “الكتاب” في خير طالما أنّه برعاية “محلّل ومحرّم” الكلمة والفن.ولم تعد الرابطة بخير لأنّها فقدت بريق زمنها الجميل.ولم تعد الثقافة في خير لأنّ المثقفين الحقيقيين قد أخلوا الميدان لأصحاب مقامات المديح والإطراء.كافور هو الحاكم، والمتنبي نسي أن يهجوه، علّه يظفر بولاية.. كما بات يحلو لنا أن نظفر ولو بصورة قرب الوزير، وكأنّنا في حضرة أغنية فريد الأطرش “ساعة بقرب الحبيب”!..

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top