بقلم خالد صالح
لم تكن سنة الـ ١٩٨٩ عاديةً بالنسبة إلى لبنان، محطاتٌ دقيقة وخطيرة شهدتها تلكَ السنة التي وقف اللبنانيون فيها يُسيطر عليهم اليأس والخوف على ضياع وطنهم، “حرب تحرير” مزعومة، حكومتان تتنازعان الشرعية، قصرُ الرئاسة الأولى تحوّل إلى غرفةِ عملياتٍ عسكرية، وانفجارٌ كبير استهدف سماحة مفتي الجمهورية الشيخ الشهيد “حسن خالد” .
من لا تاريخ له لا مستقبل له، اليوم في الذكرى الخامسة والثلاثين على تلك الجريمة البشعة التي استهدفت تلك “العمامة الطاهرة” و “الجبّة النقيّة” و “الرجل المعتدل” و “الوطني المُخلِص”، رجلُ الحوار والمحبة وداعي السلام والإيمان، الرجل الذي قال “لا للحرب، لا لخطوط الفصل بين اللبنانيين” في أحلك الظروف التي كان يعيشها الوطن آنذاك، وما أحوجنا اليوم إلى هذه القامات في ظلّ معاناتنا، لأن لبنان لن يستقيمَ إلا بهكذا رجال .
كان الشيخ حسن خالد شخصيةً قويةً بعقليةٍ أصفى جمالًا وطبعًا نادرًا، تميّز بحدّة ذكائه، وثبات خطوته، وسعة ثقافته، وعمران محبته، وحلو حديثه، وحرصه على تهدئة خاطر المهان، وبلسمة جراح المظلوم، ومناصرةِ المحروم والعمل على إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل، وأكثر ما عُرف عنه كرهه للتطرف ومحاربته دعوات التفتيت والتقسيم التي كانت تطلق بين الحين والحين، وهو الذي لعب دورًا وطنيًا مشهورًا وبقي ملتزمًا به إلى أن نالت منه يد الغدر المجرمة .
حقبة سوداء
تعتبر حقبة ثمانينيات القرن الماضي أكثر الحقبات دمويةً وسوداويةً في تاريخ الوطن، بدأت مع اجتياح اسرائيلي غاشم وسقوط “عاصمة عربية” ثانية تحت وطأة الاحتلال، ثم اغتيال رئيس للجمهورية، ثم حرب الجبل وسقوط اتفاقية “١٧ أيار” الِمشؤومة، واغتيال العلامة الدكتور الشيخ صبحي الصالح، واغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي، ثم الفاجعة باغتيال المفتي الشهيد رمز الاعتدال وسيّد الحوار وصاحب الكلمة “المتمردة” في وجه “الطاغوت” الذي أراد “تدجين” لبنان بكل أطيافه .
حافظ المفتي الشهيد على علاقاته مع كل القوى الدينية والاجتماعية والسياسية، وكانت خطبه دائمًا ما تهاجم أصحاب “الأمر الواقع”، كان يصرّعلى رفض الحرب والقتال، لأنه كان يرى أنه لا السلاح ولا الحروب ولا تسليح الطوائف هو من يخلّص البلاد من العبثية، ولذلك ظلّ طوال الأوقات الصعبة التي مرّ بها لبنان بعيدًا عن تأييد أيّ قوّة حملت سلاحها وقاتلت غيرها، ووقف سدًّا منيعًا في وجه مشاريع التقسيم، فحافظ على تواصله مع كافة الرموز الدينية لتكثيف الجهود لوضع حدٍّ نهائي لآلة الحرب الأهلية التي تفتك بالبلاد بشرًا وحجرًا، وكانت عبارته الشهيرة ” ليقتلوني إذا أرادوا .. لكن لماذا قصف الأبرياء والآمنين” .
مازال موقفه يوم اغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي يُشكل “بوصلة” لكل اللبنانيين، إذ رفض طلب “قوى الأمر الواقع” بعدم الذهاب إلى طرابلس للمشاركة في التشييع ورفض استخدام “مروحية” لنقله، وأصرّ على الذهاب بالسيارة ليقول للجميع بأن الأراضي اللبنانية هي أراضٍ لكلّ اللبنانيين، وأن كلّ اللبنانيين المتقاتلين هم أبنائي وإخواني وأنا على استعداد لمواجهتهم لأثبت للعالم أجمع بأن اللبنانيين في صفٍّ واحد إنما بحاجة إلى من يدفع هذه المسيرة إلى الوحدة.
لكن حياد المفتي الشهيد لم يكن سلبيًا على الإطلاق، بل جاهد في سبيل ترسيخ مفاهيم التواصل البنّاء مع جميع الأطراف، ومن مواقفه قيامه بعقد حوار بين القوى المتحاربة في منزله في عرمون، فلعب دورًا وطنيًا كبيرًا وكان رجل التوازنات الوطنية ومفتي الإصلاح ونقطة الارتكاز في أي لقاء وطني وفي أيّ اجتماع داخل وخارج لبنان، يبحث في القضية من “قمم عرمون” في “العامين ١٩٧٥ و١٩٧٦”، إلى اجتماعات دار الفتوى “١٩٨٣ و١٩٨٤ وما بعدها” وإلى اجتماعات الكويت “شباط ١٩٨٩” في سبيل “أن يبقى لبنان سيّدًا وعزيزًا وقويًا، وكان من أكثر الدعاة الذين يطالبون بالإصلاح والعدالة والمساواة والحرية والديمقراطية، وكان يصرّ على المساواة بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات ابتداءً من المواطنية العادية حتى أعلى درجات المسؤولية.
ذكراه حاضرة
لم تكن عملية الاغتيال الآثمة ضربة للطائفة “السنّية” أو لمقام “دار الفتوى” فقط، بل كانت موجّهة لكل لبنان، لأنّ الشهيد شكّل سيفًا حادًا ورمزًا كبيرًا في التصدّي لشريعة الغاب التي كانت تتحكم بالبلاد الغارقة بالدماء في تلك الحقبة، وعمل بكلّ إيمان وجهد من أن أجل أن تتوقف هذه الوحشية المتفشية في أواصر الوطن وإيقاف النزيف الحاد فيه، كان من أصحاب المواقف الثابتة التي لا تتبدل قياسًا على الظروف والأحداث، لأنه قاتل لأجل ديمومة لبنان ولأجل الحق والعدل والمساواة بين الجميع .
اليوم نستذكر مواقفه التاريخية الشجاعة ونهجه الوطني العروبي المؤمن، حيث كان رمزًا للسماحة والاعتدال والوسطية، وناطقًا بالحق لا يخشى لومة لائم أو أي سلطان جائر، ومواجهًا كل محاولات الفتن الطائفية أو المذهبية، بمثل ما كان مدافعًا لا يتزحزح عن وحدة لبنان وعروبته واستقلاله ضدّ كل المشاريع الصهيونية والتقسيمية والمتطرفة، رافضًا أي شكل من أشكال التدخل الأجنبي بالشؤون اللبنانية، أو أن يكون لبنان مقرًا أو ممرًا لاستهداف الدول العربية.
لقد شكّل المفتي الشهيد مرجعية وطنية عروبية توحيدية مؤمنة، وحوّل دار الفتوى إلى واحة للوحدة والتوحيد واستقلالية القرار، وقلعة للإيمان بعيدًا من التطرف والمتطرفين، وساحة للاهتمام بمشاكل اللبنانيين ومعاناتهم من مظالم النظام القديم وتداعيات الحرب اللبنانية وممارساتها، فلم يقبل بإستباحة بيروت وضرب خصائصها التوحيدية، ولا ساير حاكمًا أو مسؤولا في مظالم أو مفاسد، ولم يتبع سلطة أو حزبًا أو سعى وراءَ مكاسب، ما جعل الدار صوتًا صادحًا بالحق وقاعدة للتضامن الإسلامي والوطني .
لبنان في هذه المرحلة الصعبة يحتاج إلى الاقتداء بهذه المواقف التي اتسم بها المفتي الشهيد ونهجه لمواجهة الشر الذي يحيط بالوطن والأمة وأدواته، ومواجهة “غول” التطرّف الذي “فغر فاهه” لابتلاع الوطن، نحتاج الى دعاة من أمثال المفتي الشهيد حسن خالد يبرزون حقيقة الدين الحنيف وسمو رسالته وانسانيتها ويتقدمون الصفوف لحفظ الوحدة الوطنية ومواجهة القسمة والتطرف والفساد والافساد.