في الودائع كمان وكمان: نعرف المفترس، متى نتعرّف على الفارس.

كتب د. طلال خوجة

في مقابلة للرئيس ميقاتي على احدى المحطات التلفزيونية سأله الاعلامي الذي يجري معه اللقاء،هل صحيح أنّ الدولار المصرفي سيصبح ٣٥ الف؟ عاجله الرئيس ميقاتي مع ابتسامة ملتبسة بأنّ هذا الموضوع ما زال قيد المراجعة بين وزير المال و الحكومة عموما والمصرف المركزي ملمحا بأن السقف هو أكثر انخفاضا. وحين ألحّ الاعلامي لمعرفة الرقم التقريبي لما ابتدع رياض سلامة تسميته بالدولار المصرفي او اللولار، أجابه الرئيس النجيب قائلا “اكثر من ١٥٠٠٠”. ومع ذلك فإن الاعلامي المعروف لم ينتفض لهذا الجواب البارد والساخر والمستخف بمئات آلاف المودعين الذين تحرق ودائعهم وأعصابهم في هذا السيرك السياسي اللبناني المتوالي الفصول والجدير تسميته بسيرك الوحوش، بل سأله متى يخرج القرار الذي ينتظره المودعون؟ وهذا شجع دولة الرئيس على توسيع الابتسامة (وبنكهة مختلفة عن تعليقه المتوتر ذات مرة عن لجوء بعض المنتفضين التشرينيين لمنع السياسيين من ارتياد المطاعم حين صرخ “خلّصونا، حلّوها بدنا نروح عالمطعم”)على القول “ربما اخر أيار”. ومع أنّ المطاعم عادت لاستقبال متذوقي المازة اللبنانية من المغتربين والوافدين والقادرين والذين اقتدروا بزواريب الازمات والدعم وصيرفة واخواتها وبالقرضين الحسن والأحسن، فإنّها لم تحل بعد، بل زادت تعقيدا واهتراء وخطورة رغم تبوء الميقاتي رئاسة الحكومة رسميا ومن ثم تصريفا للأعمال، يعني لا حلها ولا خلصنا بل علقنا زيادة(وبالإذن من عبد الحليم، اللي شبكنا مش حيخلصنا)،.وفي الواقع فإن معظمنا مش قادر يروح على المطاعم رغم انكفاء رفاقنا المنتفضين التشرينيين “فالجيب ما فيه ولا مليم” على ما كان يغني سيد درويش وما كرره عمر الزعني.وللعلم فإن التعميم ١٥١ الذي رعى حرق استثمارات ومدخرات و مليمات المودعين منذ ٢٠٢٠، لم يجدده د.منصوري منذ انتهى سريانه الرسمي في ٣١/١٢/٢٠٢٣، على اساس انه بات يعتبر ان الدولار هو دولار السوق اي ٨9500، وهو ما تقوم على اساسه حسابات الضرائب والرسوم والسلع وميزانيات المصارف والخدمات على انواعها، وصولا لحساب انفاس الناس، ما عدا حسابات الرواتب والاجور ولولار المختفي بسلامته سي سلامة.و السؤال الموجه لسيد النقد اللبناني د.منصوري وللرئيسين ميقاتي وبري وللسلطة عموما، هو من أين تحصل البنوك على الليرات اللبنانية لتدفعها للمودعين الذين مازالوا مضطرين لحرق مدخراتهم الدولارية ب ١٥٠٠٠؟ وهل تدار الامور بالتقية والتورية في بلد متشظي ومنهار وشبه عار، بينما تدور حرب تدميرية بالوكالة في قسم عزيز من أرضه؟السؤال البديهي والمنطقي الذي كان يجب ان يوجه لرئيس الحكومة هو ليس كم هو الدولار المصرفي ومتى يخرج القرار، بل لماذا لم يتوقف النهب بعد اعلان الحاكم بالنيابة انتهاء بدعة الدولار المصرفي؟ ولماذا تستمر لعبة التقاذف بين السلطات النقدية والمالية والسياسية التي يدفع ثمنها اللبنانيون بالعملة الصعبة؟من يرعى ويدير ويحمي هذه اللعبة الخبيثة التي تشطب مزيدا من اموال المودعين بعد ان استنفدت لعبة صيرفة وجريمة الدعم الملتبس التي سيلت مليارات الدولارات الى جيوب الفاسدين والمافيات والميليشيات و ضخت دما خضراء في شرايين اقتصاد النظام السوري عبر الحدود التي يتحكم حزب الله بمعظم معابرها الغير شرعية، وحيث ينشط الاتجار بالبشر والمخدرات والسيارات المسروقة وما إلى ذلك، فضلا عن مجموعات الاجرام التي تعمل غالبا دون رادع ودون حسيب، والارجح بحماية على الضفتين.هذا التمادي بالسرقة الموصوفة لأموال ومدخرات الناس دون رادع دفع بالدكتور غسان عياش النائب السابق للحاكم ادمون نعيم اللتساؤل والاستغراب كتابة وعبر الفضائيات عن سبب سكوت الناس عن النهب المكشوف والعاري لما تبقى من مدخراتهم، قائلا انه يمكن استعمال نفس سقف السحوبات بالليرة ولكن دون هيركات اذا كان الهدف احتواء التضخم، عوض ترداد معزوفة الودائع المقدسة والتي شبعت تدنيسا واغتصابا، متسائلا اين اختفت جمعيات المودعين داعيا اياها لتحفيز المودعين المحبطين وتنظيم تظاهرة المليون مودع، عوض التزام الصمت وكأنّه لا صوت يعلو فوق صعت المعركة.في مقابلة تلفزيونية خاصة في 2022، سألت الإعلامية ضيفها رياض سلامة لماذا قسمت الدولار بين دولار ما قبل ٣١/١٠/٢٠١٩ ودولار ما بعد هذا التاريخ على ما جاء في التعميم ١٥٨، أجابها الحاكم المتفرعن بأن الودائع الدولارية ما قبل هذا التاريخ معظمها من اصول دولارية، بينما ودائع ما بعد هذا التاريخ محولة من الليرة، وكأن الليرة اللبنانية المؤتمن على حمايتها هو شخصيا هبطت من كوكب اخر، فاتحا الطريق لنظرية الودائع المؤهلة والغير المؤهلة، وهو ما كلف اصحاب هذه الودائع خسائر هائلة ودفع بمعظمهم نحو الحاجة قبل ان يعوض د.منصوري مؤخرا على من بقي له ودائع منهم بمشروع خرجية ١٥٠$ شهريا بالتعميم ١٦٦. ومع أن جواب سلامة كان فارغا وغير دستوري، إلّا أنّ الاعلامية اكتفت انذاك بجوابه الاجوف، علما ان الموضوع يهم عشرات والأرجح مئات الالوف.و رغم تهافت كثير من السياسيين والاقتصاديين وجماعة payroll على الدفاع عن اجرام قرار سلامة وظلمه والسلطات المشاركة له، إلاّ أنّ الارقام تثبت أنّ معظم هذه الودائع، خصوصا ودائع المدخرين وليس تجار الشيكات والفوائد حولت للدولار حين كان يراوح بين ١٧٠٠ و ١٨٠٠ في آخر شهرين من ٢٠١٩ وبموافقة سلامه، كما جمدت وانتهكت ومن ثم تبخرت أجزاء كبيرة منها بالهيركات ومعظم اصحابها لم يستفيدوا من التعميم ١٥٨.قد يبدو اننا نكرر معزوفة اصبحت محفوظة وحتى مملة بعض الشيء، إلاّ أننا نلاحظ انه يكاد لا يخلو مشروع حكومي أو غير حكومي من اجترار نظرية الودائع المؤهلة، فضلا عن اثر التمييز الصادم في الفرق بالإستفادة بين التعميمين ١٦٦ و ١٥8، علما أنّ الودائع الصغيرة لهذه الفئة قد تكون سحقت بالكامل تحت أقدام 151. نفهم بالطبع رغبة د.منصوري بالحفاظ على ما تبقى من احتياط الزامي وهو قليل رغم تحسنه النسبي لاعتبارات اختلط بها النقدي بالمالي بالسياسي. ومع اننا ننظر لخطوة الخرجية بالايجابية، ولكننانراها ايجابية منقوصة وتفتقر للعدالة، خصوصا أنّ المتأثرين بها يعانون من مظلومية مضاعفة كما عانوا من الخداع في بداية الازمة وهذا ما يدعونا للمطالبة بتعديلها.
وكما اننا نقدر تمسك د.منصوري بعدم تسليف الحكومة من القليل المتبقي بعد ان انتهكت السلطات السياسية والنقدية والمصرفية الفاسدة والمتواطئة مع فائض القوة قدسية الودائع معرضة درة التاج في الاقتصاد اللبناني اي القطاع المصرفي للانهيار، الا انه المح الى أنّ وضع الجنوب اذا ما طال قد يضعف من صموده امام مأساة الجنوبيين، وهي مأساة معرضة للتوسع مع اصرار حزب الله على متابعة تفرده وادارة الظهر لمصلحة اللبنانيين وفي مقدمهم الجنوبيين. ولن نكرر ما أصبح معروفا بأن الهمجية الاسرائيلية زادت توحشا في غزة، رغم مشاغلة حزب الله التي تجر الويلات على لبنان أيضا، فضلا عن تعميقها اللإنقسامات الطائفية وتهديدها للوحدة الوطنية والعيش المشترك والدستور اللبناني. والبعض يقول بأن هذه المشاغلة شغلت بعض الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي عن التركيز عن المذبحة المستمرة فصولا في غزة والضفة.واذا كان د.عياش قد دعا جمعيات المودعين للتصدي لعملية نهب الودائع، فإنّ الدعوة يجب ان تتمدد للنقابات والجمعيات والمؤسسات المتخاذلة والتي تتباطأ ايضا في التصدي لافتراس اموالها، علما إنّ الكثير من الجمعيات المدنية المستقلة قد اقفلت مكاتبها وتراجعت نشاطاتها نتيجة حجز أموالها وتراجع قدرتها على تأمين مداخيل ذاتية مشروعة في الظروف الصعبة.نعرف انه لا يوجد حلول اقتصادية ونقدية ومالية جذرية دون حلول سياسية، خصوصا اننا ممن يدركون أن الدولة العميقة في لبنان تترنح تحت ضغط فائض القوة المرعية خارجيا بمقابل ضعف وتشتت و تطيف معظم المعارضات السيادية، ولا عذر هنا لأصدقائنا التغييريين الذين نهضوا على اكتاف المنتفضين اللبنانيين من أجل مواجهة الفساد وانهيار الأوضاع المعيشسة. وندرك أيضا أنّ مرافق البلد الصغير هي اما معطلة او منهارة او تكاد تنهار. ومع اننا لا نرغب بالمساهمة بانهيار كلي للقطاع المصرفي، إلاّ أننا لا نرى أنّ متابعة افتراس الودائع واستضعاف المودعين وترك السوق “لمن باع واشترى” سينقذ هذا القطاع.
بل اننا نرى ان تتحمل المعارضات المدنية والسياسية المختلفة مسؤولياتها في العمل على ابطاء و وقف هذا الافتراس، علّ ذلك يساهم بابقاء جذوة الثقة في المستقبل الاقتصادي والسياسي والإجتماعي للبلد الذي نخاف من ان يصبح لقمة سائغة على مائدة اللئام حين يهجره شبابه، وما اكثر اللئام في مرحلة سرحان الوحوش الضارية.ورغم الطابع الاعتراضي المتواضع لدعوتنا بالانخراط في هذه المواجهة الميدانية والشعبية التي يجب ان تتمدد لتطال ازمات اللبنانيين الاجتماعية بمعناها الاوسع، والتي تغذي بالفعل معركة السيادة والتحرر من الهيمنة ولا تضعفها، فان التنكب لهذه المواجهة يبدو أنه يحتاج لفروسية ما في زمن التحولات الدراماتيكية، فهل من فوارس؟

المصدر:النهار

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top