بقلم خالد صالح
منذ أن فرغنا من الجلسة الأخيرة لانتخاب رئيس للجمهورية قبل سنة ونيف، دخلت البلاد في مرحلة من “التوازن السلبي” والذي كما يبدو حتى اللحظة أنه قد مهّد لفراغ طويل ربما يمتدّ حتى الانتخابات النيابية المقبلة في الـ 2026، ولا بوادرَ تلوح في الأفق بعدما ذهبت كل المبادرات أدراج الرياح، نتيجة الواقع المأزوم والانقسام العمودي القائم .
وعلى وقع التفاصيل المخيفة التي تطغى على المشهد العام يومًا بيوم، بسبب الموقف من الحرب القائمة مع العدو الإسرائيلي على الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة، والتي زادت من حدة “الشرخ” القائم حول انتخابات الرئاسة، ازدادت القناعات أنه لا انتخابات للرئاسة قريبًا وأن الاستحقاق معلّق بانتظار ما سيؤول إليه رسم الواقع الإقليمي الجديد بعد أن تضع الحرب في غزة أوزارها .
الصورة جدّا قاتمة والخلافات أعمق ومتجذرة في النظام اللبناني المحكوم بالتوافق، ويشير الواقع الحالي أن لبنان محكوم أيضًا بالحوار والتنازلات المتبادلة ويتطلب الأمر جرأةً في اتخاذ القرارات منعًا لاستمرار التعطيل والفراغ، والخروج من الحسابات الضيقة والمصالح الشخصية نحو المصلحة الوطنية العليا، لذلك فإن المراوحة يبدو أنها طويلة الأمد لأن الأفرقاء يفتقرون إلى القدرة على اجتراح الحلول .
انتخابات نيابية مبكرة
يذهب البعض في معرض بحثه عن المخارج للأزمة الرئاسية لطرح “انتخابات نيابية مبكرة” لكسر “التوازن السلبي” القائم، وربّما تعيد رسم خارطة المجلس النيابي وتوزيع القوى فيه، فالاصطفافات الحادة المتواجدة حاليا تقف حائلًا أمام أي مبادرة من هذا النوع، وبالتالي فإن هذا الطرح لا يلاقي تأييدًا ولا يعدو كونه “مزحة سياسية”، فالبلاد التي لم يكن بمقدورها إجراء انتخابات بلدية واختيارية، كيف سيكون بوسعها إجراء انتخابات نيابية ؟.
لاشكّ أن حرب غزة فرضت على لبنان واقعًا مغايرًا، ووضعت عراقيل وتحدّيات كثيرة أمام الاستحقاق الرئاسي، وحكمًا تنسحب هذه العراقيل على أي استحقاق آخر ومن ضمنها الانتخابات النيابية المبكرة، وليس هذا فحسب، بل لقد فرضت الحرب تجميد المبادرات الخارجية نظرًا لانشغال الجهات الدولية المعنية بالأزمة الرئاسية بالجهود المبذولة لوقف آلة الحرب، وفرضت على القوى السياسية في لبنان أن تقبع في “خانة الانتظار” ريثما تنجلي صورة المشهد الاقليمي، قبل البت بمصير الرئاسة ومعها الكثير من الاستحقاقات الأخرى المجمدة.
عنزة ولو طارت
يبدو أن حمّى “يورو 2024” زادت حرارة التقاذف في لبنان، فالكرة تنتقل من ملعب إلى آخر وكأنها “كرة من نار”، يكفي أن تعبر سريعًا على مواقع التواصل الاجتماعي لتدرك أن عمق الخلافات لا يقتصر فقط على مسألة انتخابات الرئاسة، وآخرها قضية مطار رفيق الحريري الدولي التي أثارتها صحيفة “التليغراف” البريطانية، وردود الفعل حيالها، رغم نفي الـ IATA ما ورد في تقرير الصحيفة، لكننا في لبنان نمارس السياسة وفق قاعدة “عنزة ولو طارت” .
لم يعد الخلاف على انتخاب رئيس الجمهورية، هو السبب الحقيقي للمشكلة التي يعاني منها لبنان حاليًا، وإن كان هو الواجهة التي يتلطى وراءها “حزب الله” وبعض حلفائه ظاهريًا من جهة وفريق ما يُسمّى بالمعارضة من جهة ثانية، بل يظهر جليًا مع مرور الوقت أن المشكلة ابعد من الانتخابات الرئاسية، وتتعداها إلى التركيبة السلطوية عمومًا، وموقع لبنان من خريطة المنطقة العربية التي ترسم حاليًا، من خلال نتائج الحرب الإسرائيلية التدميرية على قطاع غزّة، والحروب الدائرة على هامشها في المنطقة، وعلى الحدود الجنوبية اللبنانية مع فلسطين المحتلة، ودوره المستقبلي وتبعيته السياسية والاقتصادية.
الصراع السياسي المحتدم بالداخل اللبناني حول شخصية رئيس الجمهورية المقبل، وانتمائه السياسي، وإبقاء لبنان بلا رئيس للجمهورية منذ قرابة العام والنصف، بالرغم من حدة الأزمة المتعددة الاوجه ووطأتها القاسية على اللبنانيين، لم يحصل بالصدفة، بل كان مخططًا له، لتسهيل تنفيذ الاهداف المتوخاة منه على المدى البعيد.
لا شك أن استمرار الأوضاع في الجنوب على حالها، بكل تداعياتها ومؤثراتها الخطيرة على الداخل اللبناني، يرخي بظلاله على الفراغ الرئاسي، الأمر الذي يُعيد النظر في مسألة المواصفات التي يتمسّك بها كل طرف، ومسألة الطريق نحو إنجاز الاستحقاق، هل يكون بالحوار أو بتطبيق الدستور والدعوة إلى جلسة انتخاب بدورات متتالية ؟ وسط كيل الاتهامات بالتعطيل من قبل الجميع .
ولعل أخطر ما نشهد فصوله في هذا الاستحقاق هو “شخصنة” الأزمة، فهي لم تعد أزمة سياسية نحاول البحث عن مخرج لها، بل تعدتها إلى أزمات شخصية بين هذا وذاك، وفق قاعدة “ليست رمّانة بل قلوب مليانة”، في مشهدية سريالية مبكية، عندما يرتبط مصير وطن وشعب، بنظرة فلان إلى فلان أو موقف فلان من فلان، وحتى اللحظة من غير المتوقع أن تسفر الضغوطات الخارجية عن تصوّر معيّن، فالخارطة السياسية وتوزيع القوى يقفان عائقًا أمام الحل المنتظر ..