في ثلاثية التوحش والتواطؤ والتكيف

كتب د. طلال خواجه

لم يكن هناك الكثير من الاجوبة المفيدة في البحث بواسطة المحرك السياسي والمدني والنقابي عن فارس ما يحضر للميدان، دفاعا عن الموجوعين والمتقلبين على جمر الاسعار والضرائب والرسوم، خصوصا ان بينهم الكثير من صغار المودعين الذين ذابت ودائعهم او تكاد بهير كات اجرامي، ما زال قائما رغم انقضاء اكثر من ٦ اشهر من الغاء التعميم ١٥١ الذي يسعر الدولار المصرفي ظلما ب ١٥ الف. علما أن معظم اصحاب الاختصاص ابرزوا ضرورة اعتماد سعر السوق بسقف سحوبات منخفض لوقف الاجرام، كما لتخفيف انهيار الثقة بالمصارف.
اذ لطالما تغنى لبنان بقطاعه المصرفي الذي شكل احد اهم ميزاته التفاضلية في المنطقة، واعتبره كثر درة التاج في النظام اللبناني. فقد استوعب هذا القطاع الكثير من الصدمات والازمات اللبنانية والعربية وحتى العالمية كأزمة انترا و عدوان ١٩٦٧ الذي ادى لاحتلال اسرائيل لكل فلسطين، فضلا عن سيناء والجولان.

لم يدخل لبنان في حرب ٦٧ ولم تحتل اي من اراضيه في هذا العدوان، ولكنه دفع فاتورة عروبته بطريقة غير مباشرة، مع صعود المد الثوري الفلسطيني و اهتزاز الأنظمة العربية “القومية” و تجذر الفكر اليساري العلماني والماركسي. وسرعان ما تحولت المخيمات الفلسطينية الى محميات ثورية لشتى المقاومين والثوريين والكارهين للغرب الامبريالي، خصوصا لرأسه الاميركي وذيله الصهيوني.
ومع ذلك فقد بقي القطاع المصرفي اللبناني مع اجراءات حكومية سريعة صامدا، خصوصا بعد ان استوعب مسلسل الازمات واكمل مسيرته في رفد الاقتصاد اللبناني، على تشوهه البنيوي المعروف،٦ بكثير من النجاحات، حتى انه استوعب التدفقات المالية لمنظمة التحرير، مما ساهم بكثير من اللمعات اللبنانية في النصف الاول من سبعينيات القرن الماضي، قبل ان تنفجر الحروب على انواعها تحت وطأة التناقضات المختلفة. علما أن التناقضات اللبنانية واللبنانية الفلسطينية العربية التي كانت تعتمل في الجسد اللبناني لم تمنع من ان يسير كل لبنان في جنازة القادة الثلاث الذين اغتالتهم اسرائيل في عملية اثارت عاصفة سياسية قوية على المسرح اللبناني، ولكن لم تمنع عناصر الازدهار من الانعكاس على هذا المسرح بابعاده المختلفة، خصوصا البعد الثقافي.
القطاع المصرفي ساهم بمد الطبقة السياسية الحاكمة بعناصر القوة التي مكنتها من امتصاص الكثير من الأزمات والتناقضات الطبقية، لذا شكل استهداف بنك اوف اميركا في لبنان بالسطو “الثوري”المسلح مشهدية ذات دلالات كثيرة.
ساعد نجاح القطاع المصرفي السلطة السياسية على التعامل المرن عموما مع الاضرابات و النضال الديمقراطي العام الذي قادته الأحزاب اليسارية والليبرالية والنقابات والروابط، مما ادى لتنفيذ كثير من مطالب المضربين من العمال والطلاب و المعلمين و الاساتذة والفئات الدنيا من الطبقة الوسطى، خصوصا في مجالات التعليم والرواتب والاجور والضمان الصحي والاجتماعي.
لا نريد ان نغفل لجوء السلطة للقمع، القاتل احيانا، كما حصل في اضراب عاملات وعمال معمل الغندور على سبيل المثال لا الحصر. ولا نعفي الطبقة السياسية السائدة انذاك ونظام الاقطاع السياسي المستند على الطائفية السياسية من الفساد، السياسي اصلا، والمالي والاداري استطرادا، كما لا نريد ان نعطي الحركة الوطنية اللبنانية فضيلة التصدي لموضوع الاصلاحات والبرنامج الوطني المرحلي دون ان نذكر أن اركانها استسهلوا لاحقا ركوب موجة الحرب الاهلية عندما فاضت الطفرة الفلسطينية عن قدرة البلد الصغير على التحمل وانفجر بكل تناقضاته الظاهرة والكامنة، الداخلية والخارجية.

لبنان نسخة القرن الحالي مختلف عن ذلك البلد، رغم أن واقعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الكياني هو نتاج المرحلة الماضية، معطوفة على نصف قرن من الحروب والوصايات والهيمنات والاحتلالات والثورات، في مناخ من التغييرات العميقة في اوضاع المنطقة والعالم، طالت جميع مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والعلمية والاجتماعية، خصوصا بعد مرحلة من سيادة التوحش الليبرالي وتهميش الطبقة العاملة والعمل النقابي وتفكك اليسار وتطرف بعضه وصعود اليمين الشعبوي القومي العنصري والديني. وللمفارقة فقد ترافق هذا الصعود مع الثورة الرقمية وانفجار الذكاء الاصطناعي الذي حول الكوكب الى قرية صغيرة تتصارع فيها الوحوش للتحكم بالغذاء والطاقة والاسواق و عناصر التكنولوجيا وغيرها من وسائل التوزيع و الانتاج الحديثة.
كما أن هذه التحولات طرحت اشكاليات وتحديات كبيرة امام المفكرين والمؤرخين من كل الاتجاهات، فأصدر فرانكوبان the earth transformed بعد silk road وكتب هراري homo deus بعد اكثر من ١٥٠ سنة على اعلان نيتشه موت الاله.
القطاع المصرفي ليس معزولا عن بقية القطاعات وان كان اكثرها حساسية، خصوصا في لبنان و استهدافه و اعادة توجيهه وربما اعادة توزيعه و محاصصته يدخل ضمن استهداف اسس الدولة العميقة.
و منذ انفجار الازمة تقوم السلطات المختلفة، محمية من حزب فائض القوة الذي انشأ نظاما ماليا خاصا وادار اقتصادا اسودا موازيا، بإجراءات تعمق الازمة عوض حلها. إذ أقدمت هذه السلطات على هدر و استنزاف الودائع بالدعم والنهب والتهرب والتهريب و على تذويبها بتعاميم مجحفة، و على تنحيف الدين العام عبر الدولرة و اعتماد دولار السوق في الجمرك والحسابات والاسعار والخدمات وفي استيلاد الضرائب والرسوم وما الى ذلك، بمقابل توحش مافيا المولدات والصيرفة والمياه والطوابع و الباسبورات واكاد اقول مافيا الدواء والاستشفاء والتعليم، بالتوازي مع تراجع واحيانا انهيار فعالية الادارة والمؤسسات العامة وصولا للبلديات. بالمقابل تكثر الثرثرة عن الاصلاحات ومشاريع التعافي والانتعاش من سلطة فاسدة، لا تملك اي رؤية اصلاحية، يقوم اداؤها على ثنائية التوحش بمواجهة المواطنين المتألمين والانبطاح المخزي امام الطرف المدجج، وصولا للأداء المتواطئ في القضية السيادية كما ظهر جليا في التسليم لحزب الله و مغامراته المدمرة في الجنوب انفاذا لمشيئة ومصالح الراعي الاقليمي.
ورغم تعدد الاحزاب والمعارضات، خصوصا المعارضة السيادية، الا انه يغلب على معظمها الطابع الطائفي والمذهبي والمناطقي، ما يجعلها قاصرة عن صياغة برنامج موحد يجمع بين السيادي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.
في الواقع لا رؤية موحدة لهذه القوى في مقاربة دور وطبيعة حزب الله، واستطرادا تأثير واهداف الراعي الايراني في لبنان. هيمنة ام احتلال أم دعم فئوي. علما ان الجميع يعارض سلاح الحزب وفائض قوته و تهديده للعيش المشترك و عبثه بالدستور، مما يشجع على طروحات فدرالية وتقسيمية، طائفية و تفتيتية، فضلا عن تعريضه البلد لخطر التدمير باللعب على حافة الهاوية.
وقد اتت طروحات النائب علي فياض لتوغل اكثر في الانقسامات الطائفية وتعمق الجرح في العيش المشترك اللبناني بقوله ان هواجس المسيحيين والشيعة من طبيعة وجودية تختلف عن هواجس السنة والدروز، وضماناتها مختلفة! ما استدرج ردودا ونقاشا ومحاكاة.
لسنا بصدد نقاش تفصيلي لهذه المطارحات في هذه العجالة، ولكننا نرى انها تعيدنا الى سردية الأقليات واحلافها المدمرة لدور لبنان المتنوع وانتمائه العربي، فضلا عن تغذيتها، وان بطريقة غير مباشرة، لاصرار العدو الصهيوني على يهودية الكيان الاسرائيلي باعتباره ضمانة الاقلية اليهودية. وربما وجب تذكير دكتور فياض ان قيادة الاحزاب العلمانية والليبرالية واليسارية كانت متنوعة، وكان الشيعة والمسيحيون في القلب منها، قبل تأسيس الجمهورية الاسلامية في ايران و انتعاش التيارات الطائفية والمذهبية والقبائلية في المنطقة.

المصدر: النهار

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top