بقلم د. عبدالله دبوسي
خاص- ديموقراطيا نيوز
في النصف الثاني من القرن الماضي أشرفت مدينة نيويورك الأمريكية على الأنهيار الإقتصادي وكانت قاب قوسين أو أدنى من إعلان إفلاسها،كماكانت قد بدأت الشركات العالمية بإغلاق مكاتبها الرئيسية فيها وهجرتها إلى مدينة “دالس” في ولاية تكساس، والتي كانت قد قدمت التسهيلات لتلك الشركات، إلا أنه تيسر لها رئيساً لبلديتها ذو رؤية وقرار، فاستطاع أن يعيد لها دورها الإقتصادي والثقافي، وأن يسترد إليها معظم الشركات التي تركتها؛ ذلك أنه اكتشف أن مشكلتهاكانت تتلخص في “الأمن والنظافة” ، فأنار شوارعها وحدائقها ورفع البسطات التي انتشرت على أرصفتها وعمل على زيادة عديد الشرطة وعمال النظافة.. ثم توج ذلك بأن أطلق عليها لقب “The Apple \التفاحة” والتي ما زالت تُعرف به، كما قام بحملة إعلامية توضح لكل من يهمه الأمر الصورة الجديدة لمدينته.فالمدنكائنات معنوية لهاكيانها المادي، يتم تدمي بعضهاكطروادة وقرطاجة، أو تخسر إحدى أدوارهاكدار البيضاء (بعد انسحاب المستعمر منها) ، أو يتم حرقها من قبل المحتل عند انسحابه كإزمي، أو يتم إهمالها كطرابلس بعد الإستقلال، ومنها من تكافح عبر الأزمنة لإبقاء كيانها ودورهاكالشام وبغداد.ومما لا شك فيه أن الأمن هو أول ما تقدمه المدن لأبنائها ولمحيطها؛ لذلككانت في الماضي تحاط بالأسوار والبروج،كماكانت تمتلك القوى الضرورية للمحافظة على هذا الأمن.من خلال هذا الوضع، تقوم المدن بمهامها المتعددة، وبالتالي تنمو داخلياً وتشع خارجياً، فتعظم مؤسساتها وتنتعش أسواقها وتتوسع مشافيها وتنتعش معارضها وتتحسن مدارسهاوجامعاتها؛ باختصار، تتنوع وتتحسن خدماتها، ذلك أن المدن تُعرف قبلكل شئ بالخدمات التي تقدمها لأبنائها وللوافدين عليها، فلا عجب أن تكون للطرق المؤدية إليها وتنوعها مؤشراً على أهمية دورها (أنظر إلى الطرق المؤدية إلى بيوت براً وبحراً وجواً ) ؛ مع الإشارة أنه مقابل ما تقدمه من خدمات، فإنها تحصل على مأكلها ومشربها وملبسها وعلى مجمل ما تحتاجه أسواقها من خارجها.لكي تنجح بهذا الدور، كان من الطبيعي على المدن أن تكون منفتحة على محيطها وعلى الوافدين عليها، وهي تعبر على هذا الإنفتاح بالتزامها القوانين التي تحكم البشر والحجر؛ مع الإشارة أن هذا الوافد قد يكون متسوقاً أو سائحاً أو طالباً أو تاجراً أو عاملاً أو باحثاُ أو ربما مستوطناُ، أو غي ذلك…المهم أن لا يؤلف خطراً على أمنها، وبالتالي أن لا يؤثر على قيامها بالدور الأساسي الذي تحسنه، وهو “الخدمة”.في هذا السياق، نشي أن الزمن ورؤى القيمين عليها والمشاريع التي تتحقق في محيطها وداخلها مع تراكم الوافدين عليها، وبشكل خاص المستوطنين الذين يأتون للعمل فيها أو الذين يهجرونها، تساهم في تطويرها وأحياناً في تغيي صورتها، وهذا ما نراه قد حدث ويحدث في العديد من المدن، محليا وعالميا.تقدمت بهذا الكلام لأتكلم على مدينتي الملقبة ب”الفيحاء وأم الفقي ومدينة العلم والعلماء”، والتيكان يشع عطرها على القريب والبعيد؛ (إسألوا أهل القرى المحيطة بها عن من استقبلهم في الحرب الأهلية عندما ُهجروا؟ أو اسألوا أياً ممن لجأ إليها أو أقام فيها أو قام بزيارتها ولا تنسوا أن تسألوا كبار القوم منهم قبل العامة، أو اسألوا عن من حافظ على ممتلكات معظم من هجرها في تلك الحرب المشؤومة؟…ًًكانت طرابلس تمتلك إحدى أهم الموانئ على الساحل الشرقي للبحر المتوسط فتعطل، وكانت لديها محطة لسكة الحديد تربطها جنوباً ببيوت وشمالاً بسوريا ومنها إلى أوروبا من خلال تركيا فتعطلت، كما كان لديها مطاراً بحرياً تم إغلاقه، وفي غفلة من الزمن، ُشيد فيها معرضاًكان يمكن أن يكون من أهم المعارض في الشرق الأوسط فتم إهمالهكما أُلغيت خصوصيته، ولم يتم الإستلام الرسمي للملعب الأولمبي الذي تحول إلى ثكنة، أما الطرق السريعة التي تربط المدينة مع محيطها فما زالت، بعد أكثر من سبعين سنة من الإستقلال، قيد الدرس أو قيد التنفيذ ،كما تعطلت المصفاة التي تعتبر من أهم المؤسسات الإستراتيجية في المنطقة.. أما شواطؤها البحرية، والتيكانت مضرب المثل من حيث ثروتها السمكية وتنوعها ونقاوة مياهها ورمالها، فتلوثت بسبب إلقاء المياه الآسنة فيها، دون أن ننسى سرقة رمالها، بينما يعلو على ساحلها “جبل النفايات”، مهدداً بإحداث كارثة بيئية، ذلك أن المحطة التي بنيت فيها منذ عشرات السنين لمعالجة تلك المياه لم يتم وصلها بالمجارير،كما أن محطة فرز النفايات وتدويرها لم تعمل سوى يوماً واحداً، مما فتح للفقراء باباً للرزق، وهو الفرز المباشر من مستوعبات النفايات ذاتها..إلى ذلك خرجت منها بعض المدارس الخاصة التي يرجع وجودها في المدينة إلى ما قبل الإستقلال، كما بدأت الطرق التي تربط بيوت بالقرى المحيطة بها بتجنبها، ولم يبق من المستشفى الامريكية التيكانت تعمل فيها سوى لوحة بإسم الدكتور “بويز”، الذيكان يديرها والتيكانت تعرف باسمه،كما أُهملت مدارسها الرسمية التيكانت تنافس المدارس الخاصة بنوعية أساتذتها وخريجيها…يرى البعض أن السببكان انشغال نخبها بالقضايا الكبرىكالقومية العربية والقضية الفلسطينية والإشتراكية والشيوعية والقضية الجزائرية والناصرية والحريرية والتنظيمات الإسلاميةواليسارية.. كما يرى آخرون أن السبب هو التحاق بعض تلك النخب بهذا الزعيم أو ذاك، لتأمين معيشتها أو لتزداد منها!، ذلك أن هذا البعض فهم معنى “المحاصصة” وأبعادها،كما فهم أبعاد تعطيل مجلس الخدمة المدنية وغيه من المؤسسات والقوانين التيكان مفادها أن تتقاسم الطوائف اللبنانية وظائف الدولة بناء على الكفاءة والإستقرار الوظيفي، وليس على الإنتماء لهذا الزعيم أو ذاك، والتيكان قد ُسن معظمها في العهد الشهابي بهدف خلق دولة المواطنة، وقناعة سيد تلك المرحلة بأن بناء الدولة يبدأ ببناء “الإدارة”… وكان قد سبقه عهد الرئيس شمعون الذي شهد ورشة بناء كبية، وتسليح الجيش اللبناني بطائرات الهوكر هنتر المقاتلة والمجنزرات، إلا أن عهده انتهى بخلاف عميق حول سياسته الخارجية، فجاء العهد الشهابي يضمد الجراح، وليعاد فتحها بشكل مأساوي في الحرب الأهلية التي ابتدأت في السبعينيات من القرن الماضي، علماً أن طرابلس ما زالت تتحمل تداعيات كل تلك المراحل.مع انطلاقة ثورة 17 تشرين أول، اكتشف الإعلام أن الفقر المنتشر في طرابلس يفوق إمكانيات الجمعيات الخيية العاملة فيها بالتعامل معه؛ ومع ذلك، لم تمض بضعة أيام على انطلاقتها حتى تحولت طرابلس، في عيون الإعلام والثوار، إلى “عروس الثورة”، لقباً يليق بها وبتاريخها، فلا عجب أن يقع في حبالها الإعلاميون الذين ُكلفوا بتغطية نشاطاتها.يقول البعض أن أبناء طرابلس غامروا وراهنوا على القضايا الكبرى، القضايا الخسرانة! وأهملوا مدينتهم وقضاياها، والبعض الآخر يرى أن طرابلس دفعت، وما تزال تدفع، ثمن “مكانها ومكانتها”، فالإهمال الذي تلقته من السلطة السياسية، ولاحقاً من النظام السوري ومن مؤيديه، لم يكن عفوياً، بل كان ممنهجاً بهدف إلغاء دورها، ولعل أهم مظاهره كان غياب الأمن في المدينة لعشرات السنين، مع ما تبعه من تدمي وتهميش لمؤسساتها التربوية الرسميةوالصناعية والتجارية والسياحية،كما رافق ذلك العمل على إلصاقها بقندهار، فكانت لهذه السياسات أن أبعدت عنها الكثي من عائلاتها، مما أضفى غموضاً على مستقبلها.ولعل عجز نوابها ووزرائها في الحكومات المتعاقبة على حل الإشكاليات التي واجهتها أو التي ما زالت تواجهها، هو ما دفع البعض بأن يرى في ذلك ضعفهم وعدم قدرتهم على اتخاذ المواقف الجريئة من أجلها، إلا أن البعض الآخر يرى أن القضية هي إشكالية “شمالية”، تفوق قدرة الزعامة الشمالية اللبنانية على حلها لارتباطها بالقضايا الإقليمية، وكأن طرابلس (ومعظم الشمال)، لم تكن وحتى تاريخه قد ُوضعت على الخريطة الإنمائية اللبنانية؛ وفي هذا السياق، شاءت الصدف أن هذا ما جاء بشكل عفوي على لسان قائد الحافلة التيكانت تقلنا من مطار بيوت إلى طرابلس، حيث قال فور خروجنا من نفق شكا متعاطفاً مع الشمال: “الآن نخرج من لبنان”، وبالفعلكانت أولى بوادر هذا الخروج أن طلت علينا الشوارع والجبال المعتمة.تكلمنا على ما خسرته طرابلس منذ الإستقلال، ولم نتكلم على الثروات الكامنة فيها، كالأسواق الداخلية، والآثار المملوكية والرومانية، والنهر، وشواطئها البحرية، ومشروع التوسعة لمينائها البحري الذي تقدمت به غرفة التجارة والصناعة والزراعة الشمالية بواسطة رئيسها لأكثر من مسؤول ولأكثر من سفارة، وإلى ذلك علينا أن لا ننسى إعادة بناء وتحديث ما تعطل فيها أو ما تم تعطيله (كمعرض الشهيد رشيدكرامى والمصفاة والمنطقة الحرة..)، واستغلال الكابل البحري الذي يمر بها ويربط الهند بمصر وأوروبا… كما أننا لم نتكلم على إمكانيات محيطها، كمطار الرئيس معوض (القليعات)، وعكار المحرومة بالرغم من إمكانياتها البشرية والطبيعية، وجبل تربل، وغي ذلك من التلال والجبال والمصايف المحيطة بها والجزر التي تطل عليها، وإعادة تسيي السكة الحديدية شمالاً أو استخراج الغاز والبترول الموجود فيأراضيها وتحت مياهها أو استغلال القدرات العلمية الموجودة فيها والممكن تواجدها وتطويرها، وقبلكل شيء، شعبها المضياف.. والمحب للعلم والعلماء.أخياً هناك من يقول إن ما حدث لطرابلس يحدث منذ عدة عقود للبنان، ذلك أن إلغاء دوره الإعلامي والثقافي في المنطقةكان قد بدأ مع الحرب الأهلية، وهناك من يرى أن هذا الإلغاء كان من أسباب التغذية لتلك الحرب، وخصوصاً عندما نلاحظ الأحداث التي تلته، كالعمل على إلغاء دوره السياحي ودوره التربوي في المنطقة، ووصولاً اليوم إلى العمل على إلغاء دوره المصرفي وربما الإستشفائي، مع التذكي بأن إلغاء الأدوار أسهل بكثي من بنائها.من البديهي أن الأزمات التي تواجهنا اليوم تقع على أكتاف أصحاب الحل والربط في الوطن، وتحديداً على من هم في أعلى الهرم السياسي والإداري والإقتصادي والعلمي، إلا أن الثورة أظهرت للقريب والبعيد أن هؤلاء ” أضاعوا صوتهم، فالتزموا الصمتكما التزموا إضاعة الوقت والفرص”! بينما اكتشف الصبايا والشباب “أصواتهم” واستخدموها في الساحات بقوة وفرح، وستثبت الأيام أن هذا الإكتشاف هو من أهم نتائج هذه الثورة.إن نظرة إلى التاريخ اللبناني منذ الإستقلال، تشي أن الدولة اللبنانية فشلت في خلق الحس الوطني، وفشلت في بناء قوات مسلحة قادرة على حماية حدودها وتأمين أمنها (ألم يجاهر البعض، بأن “قوة لبنان بضعفه”؟)،كما فشلت الدولة في بناء اقتصاد يستوعب قدرات أبنائه.. وكانت “طرابلس” أهم الخاسرين.طلبت ثورة 17 تشرين أول، من اللبنانيين النزول إلى الساحات تحت راية العلم اللبناني وتصالحت مع القوات المسلحة اللبنانية كما رفعت شعار تحسين الإقتصاد ومحاربة الفسادوالهدر، فعملت على الجمع بين الرؤيا “الإدارية” للمرحلة الشهابية والرؤيا “الإقتصادية” للمرحلة الحريرية، ولسان حالها يقول: “آن الأوان أن نبني وطناً للجميع”.لا شك أن “طرابلس” ليست أول مدينة تتعطل مسيتها وتتشوه سيتها، وما القصة التي تقدمت بها عن مدينة نيويورك إلا حافزاً بإمكانية إعادة بريقها، علماً أن إنقاذها يبقى رهناً بأهلها؛ وفي هذا السياق، صحيح أن طرابلس تتشارك مع نيويورك في أن أزمتها تتجلى بالأمن والنظافة، إلا أن وضعها أكثر تعقيداً، فمن ناحية هناك القصور بالإمكانيات وضرورة تعديل القوانين والصلاحيات، ومن ناحية ثانية هناك تناقضاتها الداخلية، من زعامات وولاءات وأحزاب فاعلة، إلى جانب المواقف المناطقية والوطنية والإقليمية منها، علماً أنه كما يقول الدكتور نعمان جبران فإن “المرض يبدأ من الداخل” ومن الداخل يجب أن يبدأ العلاج.. دون أن ننسى أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، على أن تكون الخطوة بالإتجاه الصحيح، وأن الحياة تبدأ بصرخة.