بقلم خالد صالح
قد يكون ضربًا من الإعجاز أن تكتبَ عن أمين عام “حزب الله” الشهيد “السيد حسن نصرالله” وتختصر!!، فالرجل الذي اختصر المشهد طوال ثلاثة عقود بعدة “صور” ليس بالرجل العادي أو العابر، بل شخصية طبعت الساحة اللبنانية بطابعها في كل مرحلة عاشتها منذ شباط 1992 وحتى تاريخ استشهاده .
أسئلة كثيرة فرضها الواقع المستجد بعد عملية الاغتيال المجرمة ولعل أبرزها: كيف سيكون شكل “حزب الله” بعد نصرالله ؟، هذه الشخصية التي تدرّجت صعودًا في السياسة المحلية والاقليمية وحتى الدولية على مراحل مختلفة لكنها مترابطة بشدة، بل أصبحت “المحور” الرئيس الذي تدور حوله غالبية التفاصيل، وصارت عبارة “متى سيتحدث السيد؟” محطة ينتظرها الجميع كي يبنى على الشيء مقتضاه ..
أولا : المقاوم !!
عندما بلغ “السيد نصرالله” الأمانة العامة لحزب الله خلفًا للأمين العام “السيد عباس الموسوي” الذي اغتاله العدو الاسرائيلي مع عائلته في شباط 1992 في جبشيت، كانت ظروف لبنان الخارج من رحى الحرب الأهلية الطاحنة ووجود جزء من أراضيه تحت نير الاحتلال، تُحتّم عليه “التفرّغ” للعمل المقاوم، ولم يكد يتسلّم مهامه ويُمسك بقرار المقاومة، ويوازن بين “المقاومة والسياسة” بقرار المشاركة في الانتخابات النيابية 1992، قام العدو الاسرائيلي بحرب “الأيام الستة” 1993، والتي أظهرت شيئًا من قدرته على ضبط الإيقاع ورسم مشهدية جديدة، تحوّلت فيما بعد إلى علامة فارقة في لبنان.
في الـ 1996 وبعد العدوان الاسرائيلي الذي عُرفَ بـ “عناقيد الغضب”، ومع وجود الرئيس الشهيد رفيق الحريري على رأس السلطة التنفيذية في لبنان، وأظهر يومها “قيادة فريدة” للمقاومة ولم ينجح العدو في تحقيق ما وضعه من أهداف، بل أصبح مرغمًا نتيجة “تفاهم نيسان” على ضبط إجرامه بحق اللبنانيين، وبدأ “السيّد” يتغلغل في الوجدان اللبناني، وصارت إطلالاته منتظرة وخطاباته مسموعة بشغف، وزادت حدة عمليات المقاومة بشكل غير مسبوق حتى بلوغ اللحظة التاريخية ..
ثانيا : المحرّر !!
شكّل الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب في أيار 2000 محطة تاريخية بالنسبة للسيد “نصرالله” ولكل اللبنانيين، وشيئًا فشيئًا بدأ يستحوذ على “محبة” الجميع، فعنوان “التحرير” كان نقطة التقاء بين مكونات البلد، واندحار العدو عن أرضنا ليس بالأمر المختلف عليه، لكن “المحيط” وتحديدًا النظام السوري بقيادته الجديدة لم يُحبّذ أن ينعم لبنان بالسلام والازدهار ويُحوّل “نعمة التحرير” إلى عامل مساعد لهذه النهضة، فأراد طمس عناوينها من خلال “خلق” المشاكل الداخلية، وبدلًا من أن يتحوّل “التحرير” إلى “نهج وإرادة” صار محلّ اشتباك، خصوصًا بعد بيان المطارنة الموارنة الأول في أيلول من السنة نفسها .
ثالثًا : الملهم !!
بالرغم من الزلزال الذي عصف بالبلاد في شباط 2005 وانقسام الأفرقاء في لبنان بين معسكري 8 و 14 آذار، ظلّت “كاريزما السيّد” بمنأى عن التجاذب الحاد، وبالرغم من “شكرًا سوريا” ظلّ السيّد يحتل مكانة عظيمة في نفوس اللبنانيين قاطبة، ولعل الكباش السياسي الذي بدأ في أيلول عام 2005 إثر الاهانة المباشرة التي وجهها الرئيس السوري بشار الأسد لرئيس الحكومة آنذاك فؤاد السنيورة عندما وصفه بـ “عبدٍ مأمور لعبدٍ مأمور”، أظهر هشاشة الشارع اللبناني الذي صار فيه الانقسام عموديًا وحادًّا، لكن الأمل بوجود “السيّد” لم ينقطع، نظرًا للثقة الكبيرة بشخصه ودوره وحُسن درايته .
تحوّل إلى ما يُشبه “الأسطورة” و “الملهم” محليًا وعربيًا خلال “عدوان تموز 2006″، حين واجه بشجاعة قلّ نظيرها الغطرسة الاسرائيلية التي مورست على لبنان، وصارت عبارة “أنظروا إليها تحترق في عرض البحر”، مدعاة فخر واعتزاز لكل لبناني، عندما ارتبطت أقواله بالأفعال، وصار الصمود اللبناني والتضامن الداخلي والاحتضان الفعلي للمقاومة عناوين أدهشت العالم، في صورة رأى فيها كثيرون أن “نصر” حقيقي يتحقق عندما تكسر إرادة العدو وتمنعه من تحقيق مبتغاه، .. نصرٌ ولكن !!..
.
رابعًا : الطرف !!
كانت إرتدادات اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري لاتزال تهيمن على البلاد طولًا وعرضًا، والفراغ الذي خلّفه خروج النظام السوري كبيرًا، لم تستطع القيادات اللبنانية تعبئته كما ينبغي، وموجة الاغتيالات تضرب من دون هوادة، فبدأ الانقسام الداخلي يتدحرج كـ “كرة الثلج”، وبلغ ذروته عندما قرّرت قوى 8 آذار أسقاط الحكومة وفرضت ما عُرف بـ “حصار السراي الحكومي” في الأول من كانون الأول 2006 والذي شرّع الأبواب اللبنانية على مصرعيها أمام تبدلات طبعت المشهد السياسي وبلغ مداه الأكبر في السابع من ايار 2008 .
اعتبرت هذه اللحظة بالنسبة للكثير من اللبنانيين “لحظة قاسية” عندما وجدوا “السلاح” الذي دعموه وأيدوه وباركوه مصوبًا إلى صدورهم، وأنه بات “طرفًا” في المعادلة الداخلية التي صارت فيها الكلمة للأقوى من هذه الناحية، ولم تعد “المقاومة” عاملًا جامعًا بل صارت “محل التباس”، في الوقت نفسه بدأت معالم “التحقيق الدولي” بالظهور وتصويب أصابع الاتهام باغتيال الرئيس رفيق الحريري تتجه نحو عناصر من حزب الله، وشكّلت مواقف “السيّد الشهيد” مفاجأة لكل اللبنانيين الباحثين عن الحقيقة في أخطر قضية عرفها لبنان في تاريخه الحديث .
خامسًا: الخصم !!
كان لقرار “السيّد الشهيد” الدخول في عمق الأزمة السورية (2011) وانخراط “حزب الله” في القضايا العربية التأثير المباشر على بلوغ الانقسام اللبناني أعلى درجاته، وبعيدًا عن مسبّبات هذا الدخول، صوابيته أو عدم صوابيته، رأى اللبنانيون أن هذا التدخل سيحمل وبالًا على البلاد لأنه لا يخدم مصالح لبنان، ولا يُسهم في رأب الصدع الموجود، وهم الذين تحملقوا حول “سيد المقاومة” مستبشرين بوطن عزيز فيه حياة كريمة، ليكتشفوا أن نفوذًا إقليميًا بدأ يُهيمن على قرار البلاد خدمةً لأجندته هو لا خدمة للأجندة اللبنانية، فوجدوا أنفسهم أمام “خصم” شديد المراس متمسك بولائه من دون أي تردد .
لم يتوانَ “السيّد الشهيد” في التعبير عن هذا الولاء في الكثير من المحطات المفصلية، وأراد أن “يصبغ” الساحة الداخلية والسياسة اللبنانية برمتها بهذا الولاء، معتبرًا أن لبنان هو من ضمن “المحور” الذي ينتمي إليه حزبه، ضاربًا عرض الحائط بإرادة اللبنانيين بسيادتهم وحقهم المشروع بـ “وطن” لهم وليس ساحة لرغبات الآخرين، وتحوّل “التعطيل” سمة إن كان مسار الأمور يسير بعكس رغبات الحزب وتوجهاته .
سادسًا: الشهيد !!
على مسافة سنة خلت تقريبًا جرت عملية “طوفان الأقصى”، وسرعان ما اتخذ “السيد الشهيد” القرار في جبهة اسناد غزة، لاسيما أن مقولة “وحدة الساحات” تصدّرت العناوين، وبعيدًا عن موقف بعض اللبنانيين المعارضين للحرب فإن هذا الموقف شكل بابًا عريضًا لاستعادة “السيّد” شيئًا من بريقه المفقود، فهو الوحيد الذي ناصر غزة بالفعل وقدّم في سبيل نصرتها خيرة القادة والمقاتلين لديه على طريق القدس، واستعاد الإلتفاف الداخلي في وجه العدو الاسرائيلي الذي يرتكب أبشع المجازر في حق الفلسطينيين من دون أي رادع دولي أو إنساني، لتكون جبهة الجنوب المقلب الآخر لجبهة غزة .
ولأجل موقفه هذا، وما يُشكّله من رعب وقلق للعدو الغاشم، أصبح “الهدف الأول” له، فما يحمله في شخصيته من “مزايا” قيادية جعلت منه مقاومًا وملهمًا ومن ثم قدوة، وضع العدو الاسرائيلي كل إمكاناته بهدف “شطبه” من المعادلة، معتقدًا أن شخصية “السيّد” هي الحزب، وأنه باغتياله سيسقط ويتفكك، وتهدأ جبهة الشمال، وهذه قراءة خاطئة بامتياز، فـ “الحزب” تعرّض سابقًا لهكذا موقف في الـ 1992 وتابع مسيرته، وما فعلته إسرائيل سوى أن أعطته ما يتمناه لقب “الشهيد” ..
أخيرًا:
اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد الشهيد حسن نصرالله في مرحلة من تاريخ المنطقة وصِفت بالخطيرة وغير المسبوقة، والمنطقة على حافة “حرب شاملة”، أمام عدو يقوده “مجرم” بدعم غربي لامحدود، يجعل الترقّب سيّد الموقف لاسيما أن كل المفاوضات وصلت إلى حائط مسدود، لذا يبقى التساؤل المشروع، أيّ “حزب الله” سيكون بعد “نصرالله” ؟.