بقلم جوزاف وهبه
مع انطلاق الإتفاق الملتبس لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، هل نحن أمام “أفق” لبناني جديد، يصحّ أن نطلق عليه تسمية “أفق ما بعد حزب الله”، أو نحن أمام حرب مفتوحة لا تُبقي ولا تذرّ ويمكن أن تشمل المنطقة وصولاً إلى طهران..أو نحن أمام محطّة مكرّرة نستنسخ ويلاتها وانتصاراتها الوهمية وتداعياتها، كلّ عقد أو عقدين من الزمن؟
التساؤلات مشروعة وضاغطة، بما يتيح تلمّس مؤشّرات كلّ مرحلة ممّا جرى ويجري، من غزّة إلى لبنان، وباقي دول الطوق الخاضعة مبدئيّاً لإمرة المرشد الأعلى:
يمكن الجزم بأنّ الخيار الثالث (أي تكرار تجربة 2006 بما فيها القرار 1701) لم يعد وارداً في حسابات القيادة الإسرائيلية، وخاصة بعد وصول الرئيس الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض على صهوة “حصان أبيض” شعبي، تُضاف إليه الغلبة في مجلسيّ الشيوخ والنواب.ما يدور بين مبعوث الإدارة الأميركيّة الحاليّة أموس هوكستين وعين التينة “وقت ضائع” بانتظار ما سينجزه نتانياهو في الميدان الجنوبي من جهة، وبانتظار إمساك الإدارة الجديدة بالقرار الرسمي في الولايات الأميركية المتحدة من جهة أخرى.فالجيش الإسرائيلي قد تجاوز كلّ الفرضيّات التي بنى عليها حزب الله (ممثلاً بأمينه العام الراحل حسن نصرالله) نظرية تدخّله في حرب الإسناد التي أوصلته وأوصلتنا إلى ما نشهده من موت ودمار وانكسار:إنّه جيش كباقي الجيوش يقاتل لسنة وسنتين وأكثر. يخوض البحر والجوّ والبرّ أيضاً. يدفع الأثمان في الرجال والعتاد. يدخل إلى مدن وبلدات الخيام وبنت جبيل وصور، غير خائف من قوّات الرضوان ومن طيور أبابيل. يقاتل في كلّ الساحات والمحاور. إنّه جيش شديد البأس والبطش، ولا يهاب “توازن رعب” ولو وصلت صواريخ ساعر وعماد 1 و2 إلى قلب تل أبيب، ولو حلّق “هدهد” فوق منزل رئيس حكومته: كلّ سرديات “السيّد” قد سقطت الواحدة تلو الأخرى في كلّ حفرة من حفر الضاحية الجنوبية المتألّمة!
إذاً، نحن أمام واحد من إحتمالين، ربّما لا ثالث لهما:أمّا “أفق جديد” بأقلّ خسائر ممكنة (وهي حتّى الساعة قد باتت باهظة)، وأمّا حرب مفتوحة لن تنجو منها طهران، وربّما لا ينجو نظام الثورة الإسلامية برمّته؟..
علّمتنا التجارب أنّ حكّام بلاد فارسt طالما خاطوا السجّاد العجمي قطبة قطبة بما أسموه “الصبر الإستراتيجي”. وذاك يخفي حنكة وحكمة سياسيتين تقضيان بألّا يتورّطوا في حرب خاسرة، وألّا يخوضوا صراعاً يمكن أن يودي بتجربة حكم الثورة الإسلامية إلى الهاوية، وأنّ عداءهم للشيطان الأكبر مجرّد تكتيك لبناء علاقة استراتيجية ثابتة مع هذا “الشيطان”، لا أكثر ولا أقلّ. نستنتج أنّ طهران لن تخوض “غمار البحر والخسائر” مع حزب الله والطائفة الشيعيّة في لبنان، بل تتركهم يدفعون الثمن مهما غلا، علّها بالمقابل تقطف الثمر المطلوب في المفاوضات النووية التي دعا إليها المستشار الإيراني علي لاريجاني – في آخر تصريح له – الإدارة الأميركية الجديدة للبحث معاً في مندرجاتها وشروطها الجديدة!
وما نعرفه، بالتأكيد تدركه قيادة حزب الله (أو مَن تبقّى منها)، كما بات يعرفه، ولو متأخّراً، جمهور هذا الحزب الذي دفع الدم الغالي والرزق الوفير في سبيل شعارات برّاقة لا تتحقّق، وخرافات دينيّة مضى عليها الزمن، أو كما يُقال “أكل وشرب”.. والأسئلة وفيرة:هل ما حدث ويحدث يفتح “أفقاً” في الوضع الداخلي اللبناني ما يسمح بالدخول في مرحلة “ما بعد الحزب” في حلّته العسكريّة السابقة؟ ، هل يتخلّى الحزب تدريجيّاً عن “مقاومته الإسلامية” ما يجعله ينخرط في اللعبة السياسية المحلّية كفريق طبيعي له ما له وعليه ما عليه، دون سلاح ولا تهديد ووعيد..أم يبقى مصرّاً على سرديّات سقطت وتتساقط، في عناد يودي به وببيئته وبكلّ البلد إلى التهلكة؟
“ما بعد الحرب” أفق مفتوح على تجربة سياسية لبنانية لا يمكن لها أن تشبه ما سبق، أو أن تكون مجرّد تتمّة لما مضى، ليس لأنّ الطبقة السياسية الراهنة قد “وعت” أخطاءها المميتة، ولكن لأنّ العالم الجديد (والشرق الأوسط الجديد) سيكون صارماً في رقابته وفي شروطه وفي محاسبته لكلّ مَن يخرج عن “الصراط المستقيم”، إذا ما صحّ القول!
ولكن ما سارع إلى قوله رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد حول ثبات “ثلاثيّة” شعب وجيش ومقاومة لا يشي بالخير، وإن كان يمكن إدراجه في سعي الحزب للملمة خسائره الفادحة، على جميع المستويات، أمام قاعدته الشعبية، ليس إلّا.. كما يمكن إدراجه في محاولة (لن تكون ناجحة) للإبقاء على التوازنات السياسية الداخلية، وكأنّ شيئاً لم أو لم يحدث: هناك الكثير من الحقائق والعوامل قد تغيّرت حتماً، وما سيأتي لا يمكن أن يبقى كما كان، إعترف بذلك محمد رعد أو لم يعترف.. رضي بذلك الإعلام الممانع (وفي الطليعة جريدة “الأخبار”) أو لم يرضَ رئيس تحريرها ابراهيم الأمين. زمن الإنتصارات الإلهية قد ولّى. ونحن داخلون في جردة حسابات جديدة في الشكل وفي المضمون، أكان في داخل الطائفة الشيعيّة نفسها، أو كان داخل لعبة تكوين السلطة اللبنانية!