بقلم خالد صالح
عندما تدخل إلى تفاصيل رواية “التائهون” للأديب اللبناني الكبير “أمين معلوف”، تشعر أنه يحاول من خلالها أن يخرج من قالب رواياته التاريخية كـ “ليون الأفريقي” و “صخرة طانيوس” و “سمرقند”، وفي ثنايا هذه الرواية وحواراتها يحاول أن يجاوب على الأسئلة الوجودية وأسئلة الهوية، وهي لا تخرج عن نهج “معلوف” المؤرخ القلق على مستقبل الوطن العربي، بل والعالم، والمدرك تمامًا لخطر صراع الإيديولوجيا والهويات.
يقول “معلوف” في روايته عن مذكّرات الأيام الست عشرة التي يكتبُها آدم، إنه لطالما شعر أن اسمه وإن كان يشير إلى بداية الخليقة، ولكنه يشير بذات الوقت إلى نهايتها كحال الإمبراطور الروماني قسطنطين، الذي ابتدأت به الامبراطورية، وانتهت بقسطنطين آخر.
- ماذا تفعل حين يُخيّبُ صديقٌ أملك؟
- لا يعود صديقي..
- ماذا تفعلُ حين يُخيّبُ البلد أملك؟
- لا يعود بلدي، وبما أنّك تُصابُ بخيبةِ الأمل سوفَ تُصبح في نهايةِ المطاف بلا أصدقاء وبلا بلد” ..
استغلال الفرصة
شرعتُ في هذه البداية، لأن المتغيّرات التي طرأت على الساحتين المحلية والاقليمية خلال الأسبوع المنصرم، تضع لبنان على مفترق دقيق من شأنه أن يرسم مستقبل البلاد على مختلف النواحي، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وعليه فإن “خيبة الأمل” في أن نشهد انتقالًا حقيقيًا إلى ميدان بناء الدولة قد تجعلنا نتأخر أكثر فأكثر عن اللحاق بركب هذه المتغيّرات ..
“أحلفُ بالله العظيم أني احترمُ دستورَ الأمة اللبنانية وقوانينها وأحفظ استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه” ..
على مسافة أقل من شهر هل سيقف أحدهم في المجلس النيابي، واضعًا يده على الدستور لينطق بهذه العبارة، معلنًا بداية عهد جديد للرئيس الرابع عشر في لبنان؟، وهل حقًا أن منسوب التفاؤل يؤشّر إلى أن جلسة التاسع من كانون الثاني المقبل ستشهد ولادة الرئيس العتيد ؟، وماذا لو مرّت هذه الجلسة من دون أن ننجح في انتخاب رئيس؟، وما هو المدى الذي ستذهب إليه الأمور لاسيما بعد التطورات المتسارعة في سوريا ووصول ترامب إلى البيت الأبيض ؟.
إنّ التبدلات في المشهد العام للمنطقة خصوصًا مع سقوط “نظام الأسد”، يقرؤها الرئيس نبيه برّي بتمعّن شديد، وهو المتمرّس في أقانيم السياسة ودهاليزها وخفاياها، ويعرف أن نجاح القيادة الجديدة في سوريا في بلورة أسلوب حكم مختلف عن سابقه شكلًا ومضمونًا، من شأنه أن ينعكس على الساحة اللبنانية وتحديدًا على الرئاسة الأولى، لأنه من غير المنطقي أن يُحكم لبنان “ضد سوريا”، لذلك علينا استغلال الفرصة المتاحة قبل أن نفقد قدرتنا بالكامل على الحركة أو إبداء الرأي .
غربلة الأسماء
انطلاقًا من هذا الواقع، بدأت مسيرة الاستعداد لجلسة الانتخاب، مشاورات علنية وأخرى بعيدةً عن الأضواء، اتصالات محلية وإقليمية مكثفة، ترشيحات من هنا وهناك، لكن المشهد الحقيقي لم يزل محجوبًا عن الرؤية، ليس بسبب فقدان القراءة الموضوعية للمرحلة، بل للوصول فعليًا إلى خارطة طريق راسخة وواضحة في آن، لجعل الاستحقاق لبنانيًا صرفًا يتماشى مع المتغيّرات ويضع لبنان على سكة التطورات لاعبًا مهمًا وبارزًا، لا أن يقف ليلعب دور المتفرج على الآخرين وهم يرسمون مستقبل المنطقة .
من هنا، يصرّ الرئيس بري على أنه سيكون لنا رئيسًا في التاسع من كانون الثاني المقبل، بانيًا رؤيته على مقدرة اللبنانيين بالوصول إلى التوافق، خصوصًا مع تضاؤل فرصة وصول سليمان فرنجية، وانعدام التأثير المباشر لجبران باسيل، وموقف سمير جعجع المطالب بجلسة مفتوحة، فقدّم اسمين بديلين في عملية “جس نبض” حقيقي، خصوصًا أنه نال بركة “بكركي” على جهوده، وبالتالي فإن المرحلة آخذة في التصاعد لـ “غربلة الأسماء”، وشطب كل الأسماء التي لن يكون بوسعها التأقلم مع الوقائع الجديدة لأنها مقيدة سياسيًا، والمرحلة تقتضي رئيسًا جامعًا وحاصلًا على شبه توافق، وغير محسوب على أحد .
ما يحصل في سوريا من تسارع في ترتيب أوضاعها الداخلية عقب سقوط نظام الأسد، وسط انفتاح عربي وإقليمي ودولي ملحوظ على القيادة الجديدة، يضع لبنان على المحك بأن عليه هو الآخر أن يبدأ بعملية ترتيب أوضاعه والانتهاء من حال الشغور وتصريف الأعمال، إلى بناء المؤسسات التي من شأنها أن تستعيد زمام الأمور خصوصًا مع بدء انحسار “النفوذ الإيراني” وباتت الأرض جاهزة لاستعادة العرب دورهم سواء في لبنان أو سوريا، وبالتالي فإن الرئيس المقبل يجب أن يُدرك بالفعل لا بالقول فحسب أن “لبنان عربي الهوية والانتماء” .
خيبة الأمل
لكن الأمور ستشكّل مزيدًا من التعقيد في حال مرّت جلسة الانتخاب كسابقاتها، سيما إن كانت الحكومة الانتقالية في سوريا قد بدأت بإحكام سيطرتها واستعادة هيبة الدولة فيها، وانطلقت نحو ترميم ما تبقّى من مؤسساتها، ونفقد بالتالي اغتنام “الفرصة” المتاحة لنا و “نركب راسنا” ونرفض النزول عن الشجرة لحسابات شخصية فقط .
الأمور في المنطقة ذاهبة نحو “تصفير المشاكل” والولايات المتحدة الأميركية تعمل على هذا، وتوزيع الأدوار بشكل مقبول ومرضي للجميع ومن ضمنهم لبنان، وهذا ما تشير إليه بعض التقاطعات، لذلك يصرّ الرئيس بري على إنتاج رئيس في الجلسة المقبلة ضمن مواصفات المرحلة الجديدة، والانفتاح على العرب ودورهم المهم من الأساسيات المطلوبة، وعليه فإن قائمة الأسماء بدأت تضيق شيئًا فشيئًا، وعلينا أن ننحني مع رياح التغيير في المنطقة لا أن نواجه العاصفة بأسلوب العناد والمكابرة .. فهل نغتنم الفرصة ؟ ..