بقلم جوزاف وهبه
ما جرى ليس حدثاً عاديّاً. هو أقرب إلى “عمليّة البايجرز” التي لم تفاجئ فقط كوادر حزب الله، وإنّما أذهلت أجهزة الإستخبارات في كلّ العالم، وتحوّلت إلى مادّة تُدرّس في أكاديميات الأمن والتجسّس وضرب العدو من حيث لا يدري ولا يتوقّع..حتّى في الخيال!..وإذا كانت الطبقة السياسية اللبنانية برمّتها قد تفاجأت بما حصل في مسار وخواتيم الإستشارات الملزمة لتكليف رئيس جديد للحكومة، فإنّ التحوّلات الكبيرة في المواقف، ليس بين الليل والنهار، وإنّما ما بين قبل الظهر وبعده، قد أدّت إلى ما أدّت إليه من فارق كبير في الأصوات بين الرئيس المكلّف القاضي نوّاف سلام وبين الرئيس نجيب ميقاتي الذي وجد نفسه وحيداً في معركة ظنّ أنّها تساهم في وصول البلد إلى برّ الأمان عبر تسوية تقوم بين تكليفه مجدّداً كعامل إطمئنان لحزب الله والطائفة الشيعيّة من جهة، وبين النصر الذي حقّقته المعارضة عبر وصول العماد جوزيف عون إلى قصر بعبدا، من جهة أخرى.. ولكن يبدو أنّ للمايسترو المجهول – المعلوم كانت هناك حسابات مختلفة تماماً
فكيف تجلّت هذه التحوّلات في تصويت أعضاء “برلمان الشمال” ال 28؟:
صباحاً، كان الجوّ صافياً روتينيّاً:النوّاب جهاد الصمد وحيدر ناصر وكريم كبارة ذهبوا إلى التصويت كما هو مفترض بتسمية الرئيس نجيب ميقاتي.عند الساعة العاشرة وعشر دقائق بتوقيت الإستشارات، لاحت أولى التبدّلات:النائب إيهاب مطر طلب تأجيل موعده والإنضمام إلى موعد “تكتّل الإعتدال الوطني”، وكأنّه قد استشعر بأنّ “كلمة سرّ ما” قد صدرت، ولا بدّ من الإنعطاف صوب “نوّاف سلام”. وهكذا كرّت السبّحة:الوزير فيصل كرامي، الذي بات ليلته مؤيّداً لميقاتي مع زملائه في كتلة التوافق الوطني (طه ناجي ومحمد يحيه..) سارع إلى تأييد سلام.نواب تكتّل الإعتدال (أحمد الخير، عبد العزيز الصمد، وليد البعريني، محمد سليمان، سجيع عطية وأحمد الرستم) وهم المحسوبون بالكامل على الرئيس ميقاتي سمّوا بالفم الملآن منافسه الآتي من محكمة لاهاي، وكأنّ إلتزام الليل يمحوه النهار. حتّى الحليف التقليدي سليمان فرنجية، فقد وقف على الحياد بلا تسمية (التكتّل الوطني المستقل الذي يضمّ النائبين طوني فرنجية ووليام طوق)، وربّما يكون لذلك صلة بتخلّي الثنائي الشيعي عن ترشيح رئيس تيّار المردة الذي كان يقول عنه الأمين العام الراحل حسن نصرالله “هو عين والجنرال ميشال عون عين”، فإذا به خارج السباق الرئاسي “بلا أذن ولا دستور” كما يقول المثل الشعبي!
إذاً، 3 نوّاب شماليين وفوا بالوعد الصادق، فرنجية وطوق لهما “عذر خاص”، فيما أصاب التحوّل الدرامتيكي مواقف 9 نواب يشكّلون تكتّلي الإعتدال والتوافق، بالإضافة للنائب المستقل إيهاب مطر. أمّا النوّاب ال 13 الباقون، فهم أصلاً في الموقع المعارض لانتخاب ميقاتي، ويتوزّعون على الكتل التالية:-4 نوّاب من الجمهورية القويّة:إيلي خوري (طرابلس)، ستريدا جعجع (بشرّي)، فادي كرم (الكورة) وغيّاث يزبك (البترون). وسبق للقوات (يدرون أو لا يدرون) أن رشّحوا النائب فؤاد مخزومي الذي انسحب بدوره لمصلحة القاضي سلام في سياق توسيع جبهة المواجهة مع ميقاتي.
-4 نوّاب من تكتّل لبنان القوي:جبران باسيل (البترون)، جورج عطالله (الكورة)، أسعد درغام وجيمي جبّور (عكار).والخلاف بين ميقاتي والتيار الوطني الحر ليس جديداً، بل هو مستحكم منذ حكومة تصريف الأعمال التي يقاطع إجتماعاتها الوزراء المحسوبون على باسيل.
– النائبان أشرف ريفي وميشال معوّض من كتلة “تجدّد”.وكذلك النواب ميشال دويهي (زغرتا – كتلة تحالف التغيير)، جميل عبّود (طرابلس، كتلة مشروع وطن الإنسان)، والنائب المستقل أديب عبد المسيح (الكورة).
25 نائباً من برلمان الشمال إضطرّوا للإنتقال السريع من ضفّة إلى ضفّة، وهو ما يوحي بأنّ السياسة السعودية الجديدة لا تقوم على “سياسة الإملاء والتلقين” بل على طريقة “اللبيب من الإشارة يفهم”، وهو ما لم يتعوّد عليه الساسة في لبنان، ممّا جعل مشهد الإستشارات الملزمة يبدو سوريالياً يجمع بين الضحك والبكاء، أكان بالنسبة للخصوم الذين عليهم أن يدركوا أنّه لا بدّ من دفع الثمن عاجلاً أو آجلاً، أو بالنسبة للحلفاء الذين عليهم أن يتعلّموا فنّ التقاط الإشارات ولو من بعيد!..