
بقلم خالد صالح
لم تكن النهاية الدموية التي رمت بـ “لقمان سليم” قبل أربع سنوات على لائحة الراحلين، مجرّد عملية اغتيال آثمة طاولت شخصية فكرية – ثقافية – سياسية، بل هي حلقة من سلسلة طويلة مخطىء من اعتقد أنها ستقفُ عند هذا الحدّ، وعليه إعادة حساباته جيدًا؟، فنحنُ نعيشُ في بؤرةٍ من “اللامنطق” فيها، وسط حال من الإحباط المخيف التي تسيطرُ علينا، فترانا نسيرُ كـ “النعاج” بلا حولٍ ولا قوّة ونحنُ ننظر إلى “الجزّار” بعين العطف : نرجو أن يكونَ سكّينك حادًا بما فيه الكفاية !!
بعيدًا عن أيّ تحليلات غير السويّة أو القراءات الخاطئة التي تناولت عملية الاغتيال منذ حدوثها وحتى اليوم ودفعتنا للوقوع في الالتباس، فانهالت الاتهامات بلا أدلة محسوسة، فإن ما حدث سواء بالشكل أو بالمضمون جرّاء اغتيال “سليم” فتح الباب في ذلك اليوم أمام حقبةٍ جديدة من الأسئلة العصيّة على الفهم أولًا وإعجاز الاجابات عليها ثانيا، لكن ما هو مؤكد وفقًا للأحداث، أننا وجدنا أنفسنا أمام مشهدٍ جديد وتكرّر لاحقًا بحيث بات بإمكاننا القول فيه : وداعًا للـ TNT وأهلا بـ “رصاص الكواتم” ..
منذ أواخر الـ 2004 وحتى نهاية الـ 2013 كان “المجد المزيّف” للسيّارات المفخّخة، التي تعبث بسادية مرعبة بمسرح الأحداث، فـ “تشخص الأبصار” للمكان المدمّر وللنار الملتهبة ولتفحّم “الجثث”، وتتوقّف الأنفاس أمام هول ما جرى، فتتوزّع العواطف على “المستهدف” في البداية ثم على الضحايا والأرزاق، لتطبع صورة دموية – مأساوية في العقول والقلوب قبل العيون، فتحتار حينها على ماذا تبكي ؟ ..
كان الأهم في كلّ ما جرى هو الوصول بـ “المشهد” إلى مبتغاه الرئيسي، فالمستهدف “مستهدف” سواء بـ “طنين” من الـ TNT أو بـ “رصاصة في الرأس”، فـ “المخرج” لا يريد فقط الرتابة في الأحداث، بل يريد أن يحفرَ عميقًا في الذاكرة، ليتركَ المشاهد “مخطوفًا” من هول ما جرى، وتتلاشى اسئلته الكثيرة وهو يراقب الدماء النازفة من الوجوه والمآقي، كان الهدف الأول “القبض” على الأحياء قبل “قبض روح” الضحية !! ..
لقد أصبحت “الأساليب المعتادة” سابقًا باهظة جدًا، سيّارة (ربما مسروقة) وكمية من المتفجرات وأجهزة هواتف محمولة وخطوط ورصد تحركات واختيار الـ DEAD ZOON وتحديد ساعة الصفر، أليس هذا ما حصل بدءًا من الشهيد الحيّ مروان حمادة وانتهاءً بـالشهيد محمد شطح مرورًا بالرئيس الشهيد رفيق الحريري والشهداء الوسامين الحسن وعيد ووليد عيدو وانطوان غانم وجبران تويني واللائحة تطول؟، أكلاف مرتفعة لإخراج المشهد وترك أرواحنا معلّقة على حافة الموت المنتشر، لتقول في قرارة نفسك من دون تفكير “ما هذا الخراب والدمار وما ذنب هؤلاء الضحايا؟”، وهذا ما كان يتقصّده كاتب السيناريو أولًا والمخرج ثانيًا ..
باتَ هذا الأسلوب سمجًا ورتيبًا ولم يعد يحقق المُراد منه سوى “شطب” المستهدف من الصورة، فالناس قد “تمسحت” أمام مشاهد الدمار والسيّارات المحطّمة والنيران المشتعلة والجثث الممزّقة، إذن لماذا هذه الكلفة العالية “لوجيستيا”، إذا كان بالإمكان تحقيق المراد بأقلّ كلفةٍ مادّية وبشرية، رأسمالها “رصاصة” في الصدغ وتنتهي القضية، و”لا مين شاف ولا مين دري”، لا تتبّع لرقم هيكل السيارة ولا نوع المتفجرات المستخدمة ولا “معمل” اللوحات المزورة، ولا تحليل لـ “داتا” الاتصالات، وفق عملية “خفيفة ونظيفة”.
حصل هذا في الآونة الأخيرة مرّات عدة، فلا خيوط تشير إلى منفّذي العملية، وجلّ الاتهامات “سياسية” بلا أدلة دامغة، يُطلقها البعض وفقًا لقراءَاته وأيديولوجياته فيوجّه السهام نحو هذا الفريق أو ذاك، وهذا ما حصل مع “لقمان سليم”، سواء من حيث شكل الجريمة وطريقة تنفيذها واختيار المكان والزمان، واللعب على المتناقضات وسياق الأحداث، وكأننا أمام “أحجية بوليسية” تتطلب ربط الأمور عمدًا بعضها ببعض، لتسليط الضوء على جهة معنية بالحدث، حتى يصبح الأمر سيّان، سواء كانت هي المنفذة أم لم تكن!! ..
عندما عرضت شاشات السينما العالمية قبل فترة فيلمًا بعنوان (T.E.N.E.T- العقيدة) ويروي توصّل العلم إلى ابتكار جهاز يعتمد على “النظرية الخوارزمية” للعودة إلى الماضي أو للولوج نحو المستقبل، وفق قواعد فيزيائية معقّدة، بحيث ترى في المشهد الواحد، حدثًا آنيًا وتدرّجه من الماضي وتأثيراته على المستقبل، وكيفية التحكم باللحظات الثلاثة لتبديل المجريات كما يشتهي “قائد العقيدة”، فالرصاصة تعودُ إلى مخزن المسدّس، والجرحُ يلتئم، والفاعلُ يقعُ في قبضة العدالة، والمستهدفُ يُكمل حياته !!
تساءًلتُ حينها ماذا لو كنا نملك هذا الجهاز، لنستعيد الكثير من اللحظات المؤلمة ونعمل على تغييرها، ألم يكن حينها كلّ الشهداء أحياءٌ بيننا، وكلّ الفاعلين يسقطون تباعًا، لأننا اكتشفنا ما يرسمونه قبل لحظةِ التنفيذ، لكن يبدو أن “مخرج” الأحداث في لبنان متأكد أن هذه النظرية هي ضرب من ضروب الخيال، وأن الرصاصة التي خرجت قد خرجت، وأنّ الرأس المهشّم باتَ مهشّما بالكامل، وأن نزيفَ ما يحتويه من أفكارٍ وتطلعات قد سال وما من إمكانية لجمعها، وأن المستهدف بات “خبرًا” و “ذكرى” ..