
بقلم د.طلال خواجة- ديموقراطيا نيوز
لم نكن نلتق بشكل خاص انا والرفيق نواف عندما جمعتنا منظمة يسارية اسسها محسن ابراهيم و احمد بيضون و وضاح شرارة و فواز طرابلسي واخرون. تكونت منظمة العمل الشيوعي في لبنان من اندماج تنظيمات اشتراكية وقومية تفاعلت فكريا وسياسيا و ثوريا بعد هزيمة الرمز القومي العربي عبد الناصر في حرب ١٩٦٧ التي شنتها اسرائيل على دول الطوق فاحتلت ما تبقى من فلسطين بما فيها القدس الشرقية، فضلا عن الجولان السورية و سيناء المصرية، التي استردتها مصر بعد حروب مكلفة ومفاوضات مضنية ومعاهدة سلام، كانت الاولى بين اسرائيل ودولة عربية.
كان التأثير الثوري الفلسطيني غالبا على المنظمة الشيوعية الجديدة، علما أن محسن ابراهيم الذي رأسها حتى رحيله، كان صديقا لعبد الناصر ودافع عنه في مجلة الحرية في اعقاب الهزيمة. لم اكن انتمي للمجموعات البيروتية في المنظمة التي احتضنت نخبا ثقافية واجتماعية و طلابية بينها نواف سلام.
شخصيا كنت اتأرجح بين الفرع الطرابلسي الشمالي، الذي ترأسه ابن الاسواق الشعبية عبد الفتاح سوق و نهلا الشهال المولودة لعائلة شيوعية من اب شركسي طرابلسي ومن ام كلدانية من البصرة، و بين الفرع الجامعي في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية الذي ترأسه الوائلي المشاغب نصير بك الاسعد المطرود من الجامعة اليسوعية والذي ضم خليطا متنوعا عابرا للطوائف والمناطق.
جذبت المنظمة الشيوعية الجديدة انذاك الكثير من النخب الشبابية والثقافية المحبطة قوميا والثائرة لبنانيا و فلسطينيا كما احتضنت مجموعات عمالية و فلاحية، مما أثار مواجهات فكرية وسياسية و أحيانا صدامات ميدانية بالايدي في الجامعات مع الحزب الشيوعي اللبناني الذي كان البعض منا ينتقد تبعيته للسوفيات ساخرا بالقول ان “أعضاءه يحملون الشماسي في لبنان عندما تمطر في موسكو”، بينما كان رفاق الحزب ينعتون المنظمة بالطفولة اليسارية ويسخرون من احتضانها حكومة الظل المكونة من الثلاثي سمير فرنجية ونواف سلام ونصير الاسعد، اذ أن الاول هو ابن اخ رئيس الجمهورية والثاني ابن أخ رئيس الحكومة والثالث هو من صلب عائلة رئيس مجلس النواب.
التقيت د.نواف في “الكواليتي إن” في طرابلس حين كلفت بادارة حوار حول مشروع قانون الانتخابات المعد من قبل لجنة فؤاد بطرس، بين نخب طرابلسية و وفد من اللجنة تقدمه د.نواف المتعدد المواهب والشهادات في السياسة والحقوق والتاريخ. كانت حرب ٢٠٠٦ التي استجرها حزب الله على لبنان عندما قام بعملية عسكرية نوعية، رغم تعهدات نصرالله بالانضباط، بعد يوم من فشل مفاوضات فيينا بين راعيه الايراني و الوكالة الدولية، بالكاد قد توقفت بالقرار الدولي الذائع الصيت ١٧٠١. وهو القرار الذي تواطأ عمليا الحزب واسرائيل على عدم تنفيذه كاملا. الا ان الهدوء الذي رافق وقف اطلاق النار لعقدين شكل فرصة ذهبية لإعمار وتطوير الجنوب، ساهمت فيها قوات اليونيفيل الدولية المتعددة الانتماء.
وكان السيد نصرالله قد اعلن النصر الالهي بخطاب ملان بالصواريخ من كل العيارات رغم مشهد الموت والدمار الرهيب، ما جعلني افتتح الجلسة بمقدمة صغيرة بعنوان التصويت من فوهة الصواريخ. وبالفعل فقد تحول وهج هذه الصواريخ الى مفاتيح تصويت من العيار الثقيل في البرلمان والحكم والحكومة، بعد مسلسل الاغتيالات والاعتصامات و ٧ ايار والدوحة وone way ticket، وصولا للقبض على مفاصل البلد جميعه، بالتواطؤ مع عبدة السلطة و مفاسدها ورؤساء القبائل اللبنانية من كل الطوائف والمناطق والفئات، وخصوصا التيار العوني الذي لهث وراء المغانم بأي ثمن.
وباستذكار حرب ٢٠٠٦ اتذكر “الرفيق ايلي” الذي شارك في المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الاسرائيلي في الجنوب عندما قال لي في الايام الاولى للحرب : نحن بطبيعة الحال ضد العدو الاسرائيلي، ومع ذلك الله يساعدنا على تحمل “انتصار حزبه” و راعيته ايران و عموم الممانعين. وايلي كان طبعا على حق لأن تسييل الانتصار المزعوم كان في الاستقواء على اللبنانيين وبدء اخضاعهم لسطوة السلاح وتصفية نتائج انتفاضة ١٤ آذار التي فجرها زلزال اغتيال الحريري.
وللمفارقة فانه لم يكن ممكنا انتخاب الجنرال الآدمي جوزيف عون الذي حفظ مؤسسة الجيش الوطنية في اعقد الظروف وتكليف القاضي المثقف نواف سلام، لولا هزيمة الحزب وايران في الحرب الوحشية الاخيرة التي استجرها هذا الحزب ايضا، حين بادر بحرب الاسناد المدارة ايرانيا واستغلتها اسرائيل للاعداد والتوقيت المناسبين، مدعومة من الولايات المتحدة والغرب عموما. علما أن السيد نصرالله صم آذانه عن كل المناشدات الداخلية والعربية والدولية بوقف اسناده العقيم لغزة المنكوبة بالحرب الهمجية الصهيونية التي كانت قد استجرتها عملية طوفان الاقصى الحماسية.
فبين مشهد السيد نصرالله يعلن النصر الالهي مزهوا في ٢٠٠٦ ومشهد جثمانه المنتظر الدفن الشعبي في ٢٠٢٥ بعد الاغتيال المفجع والدمار الرهيب تقع المفارقة الكبيرة. وما يزيد هذه المفارقة سوريالية رغم واقعيتها السياسية هو السيرة الوطنية والعروبية والاكاديمية للرئيس المكلف، حيث واجه من منصات مختلفة المشاريع الصهيونية في الاحتلال و الاستيطان و التطهير والابادة.
المسافة بين المشهدين قطعتها تحولات هائلة في المنطقة والعالم، حيث الصراع الدولي بين الحيتان والتماسيح على مقدرات الكوكب وصولا للفضاء على اشده. فقد أعاد الناخبون الاميركيون دونالد ترامب للبيت الابيض، وهو كان قد ارسل جماعته من المتطرفين لاقتحام الكابيتول هيل في ٦/١/٢٠٢١ في محاولة فاشلة لقلب نتائج الانتخابات. و الرئيس ترامب قال في نفس المكان بعد اربع سنوات في حفل تنصيبه، ان الله انقذه من الاغتيال لأداء مهمة جعل اميركا عظيمة من جديد(maga)، و كان محاطا بثلاثي قوة المال و التكنولوجيا الناعمة و جنون العظمة، في دلالة واضحة الى اهداف وعناوين وادوات الصراع مع الصين وروسيا وغيرهما من القوى الصاعدة وصولا لتطويع اوروبا نفسها معقل الحضارة الغربية، عازفا على اوتار الشعبوية الحديثة المصقولة بالذكاء الاصطناعي و الحركة الانجيلية/ اليهودية، والمصحوبة بعقلية تاجر العقارات، وفي هذا يتقاطع ترامب مع خصمه تاجر السجاد الايراني.
علما أن ترامب الثاني اختار الفار من العدالة الدولية بيبي نتانياهو كأول مسؤول “اجنبي” يستحضر الى البيت الأبيض، في تأكيد على اهمية واسبقية الدولة العبرية في الشرق الاوسط الجديد/القديم، وعلى اعتبارها الشرطي الاساسي المدجج بالسلاح الفتاك والاقتصاد النوعي والايديولوجيا القومية والدينية.
الاقتصاد يتغير والسياسة تتغير والافكار تتغير و أدوات التغيير تتغير، والنجاة من ان نبتلع من الحيتان أو نمزق في افواه التماسيح مهمة راهنة لا تحتمل التأجيل، وان كانت تتطلب التبصر واتباع قانون ثنائية الصلابة و المرونة.
يضمر هذا الكلام ان الفرصة المتاحة امام الثنائي عون/سلام محفوفة بالمخاطر ومزروعة بالالغام. فالتركة ثقيلة، وحزب الله مازال يزمجر، رغم معرفته بأن مرحلة فائض القوة قد انتهت الى غير رجعة، خصوصا بعد فرار حليفه المجرم بشار الاسد و بداية العودة السورية الى الحضن العربي. كما أن زعماء باقي القبائل اللبنانية مازالوا يبحثون عن ترف المكاسب والمغانم ويغلفونها بحقوق الطوائف والجماعات، وعينهم على الانتخابات القادمة.
والثنائي عون/سلام يحاولان امساك العصا من الوسط و انجاز حكومة تلتزم بالمواصفات الواردة في خطابي القسم والتكليف دون مواجهات مؤذية. الواقع ان كثر من نخب وكوادر انتفاضتي ١٤ آذار و١٧ تشرين يتمنون على د.نواف ان يشكل حكومة مستقلة عن الاحزاب الطائفية، مستندا على قوة الدفع العربية والدولية و المحتضنة من اكثرية اللبنانيين من خارج القطعان وذئابها.
و رغم قوة الدفع وقوة الامل، الا ان الرئيس نواف يعرف التركيبة اللبنانية المعقدة، و يدرك اننا لسنا امام ثورة ديمقراطية جارفة في المجتمع اللبناني. و اظن انه يدرك أيضا خطر المناورة الميثاقية، مما يستدعي الحذر من تقديم هدايا مجانية للثنائي الشيعي وللحزب الذي جلب الويلات للبنان وللبيئة الشيعية خصوصا.
امام الحكومة العتيدة تحديات في تنفيد القرار ١٧٠١ بكافة مندرجاته وفي البدء بالاصلاحات وفي حل ازمة المودعين والقطاع المصرفي وفي الاعداد لاعادة الاعمار وفي انجاز الانتخابات، بقانون مختلف عن القانون المذهبي المشوه.
الحكومة بحاجة لثقة اللبنانيين و المجتمعين العربي والدولي وليس ثقة الكتل النيابية فقط. و رغم عناصر التغيير التي ستحتويها بالتأكيد، فهي لن تكون على مستوى طموح اللبنانيين الذين عليهم ان يشمروا عن سواعدهم في معركة اعادة بناء الدولة بعد كل هذا الخراب في جميع مرافقها الخاصة والعامة وفي بناها الفوقية والتحتية وفي مؤسساتها التي نخرها الفساد. واللبنانيون الذين لطالما شبهوا بلدهم بطائر الفينيق، أعادوا مؤخرا اكتشاف اتفاق الطائف والدستور اللبناني الذي هو سلاحهم الرئيسي في بناء دولة حرة سيدة عادلة وتساوي بين ابنائها.
وحتى العلمانيون ودعاة الدولة المدنية الصافية وهم كثر وبينهم اصحاب السوابق اليسارية، يعرفون ان تطبيق الدستور الحالي بكافة بنوده يشكل الممر الاجباري للعبور اللاحق نحو المواطنة الحديثة والخروج من اسر الطائفية. علما ان لغة الطائفية والكراهية الدينية والعرقية عادت لتطل من أكثر من مكان في العالم، مستعيدة لغة هانتغتون وصدام الحضارات.
ومع أن الحكومة لن تكون نهاية المطاف في معركة اللبنانيين الطويلة النفس نحو بناء الدولة العادلة والحرة والمتناغمة مع نظام المصالح العربية، الا ان تكوينها سيكون له تأثير كبير في مقاربة التحديات والمهام المنتظرة و في طبيعة المواجهة الديمقراطية السلمية التي سيخوضها اللبنانيون من كل الضفاف المدنية والسياسية في معركة استعادة الدولة.
لا ندعو لاستحضار تجارب حزبية باتت من الماضي حتى في عقر دارها الاوروبي الاساسي، وان كنا نأمل الاستفادة من دروسها الفكرية والسياسية والبرامجية.
ومع ذلك فنحن نحث جميع القوى الناشطة على تطوير التشكيلات المدنية والسياسية العابرة للطوائف والمناطق و ايجاد القواسم المشتركة بينها لتأسيس تيارات سياسية واسعة مرنة، وليس مجموعات و منابر فقط قليلة الفعالية على اهميتها. كما نحض القوى والفعاليات الناشطة التي يجمعها سلاح الدستور و تنطلق من اعتبارات ديمقراطية و تحمل مقاربات فكرية وسياسية متقاطعة، على التواضع والحوار و على وقف المناوشات العبثية، خصوصا على الفضائيات و وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا لا يعني وقف النقد والضغط ومواجهة محاولات الالتفاف التي تقوم بها الاحزاب والقوى الطائفية، خصوصا الثنائي الشيعي.
ما نأمله هو عدم اضعاف الفرصة التي اوصلت الى تكليف شخص من عيار نواف سلام بجدل حول جنس الملائكة، خصوصا ان الشياطين تقف دائما بالمرصاد.