
تمرّ المخيمات الفلسطينية في لبنان حالياً بمرحلة من أخطر مراحلها في التاريخ الحديث، حيث يتزايد نفوذ الفصائل الإسلامية المسلحة، وعلى رأسها حركة “حماس”، وسط غياب أمني شبه كامل وضعف رقابة الدولة اللبنانية. هذا الواقع غير الطبيعي والمزمن بات يشكّل تهديداً مباشراً للأمن القومي اللبناني، بعدما تحوّلت بعض المخيمات إلى بيئات خصبة للتطرّف ومنصات لتصفية الحسابات الإقليمية بالوكالة.
الأحداث الأخيرة في مخيم عين الحلوة لم تكن استثناءً، بل كشفت حجم التهديد الكامن في المخيمات. فقد شهد المخيم سلسلة اغتيالات طالت كوادر من حركة “فتح”، لا سيما شخصيات عُرفت باعتدالها، في محاولة واضحة لتغيير موازين القوى لصالح “حماس” والمجموعات المتشددة المرتبطة بها. هذه الجماعات لم تكتفِ بالتحريض، بل سعت إلى فرض واقع جديد بقوة السلاح، ما أدى إلى اندلاع مواجهات عنيفة أوقعت عشرات القتلى والجرحى، ودمّرت أجزاء واسعة من المخيم، ودفعت المئات إلى النزوح، في مشهد يعيد إلى الأذهان مشاهد الحرب الأهلية اللبنانية.
ولم تكن عين الحلوة سوى نموذج من بين عدة نماذج مقلقة. فقد أشارت تقارير أمنية إلى استخدام مخيمات أخرى، مثل مخيم البرج الشمالي، كمراكز لتصنيع العبوات الناسفة وتجميع المتفجرات. وقد أكد ذلك الانفجار الغامض الذي وقع العام الماضي في أحد مستودعات البرج الشمالي، ما أثار مخاوف حقيقية من أن هذه المخيمات تحولت من مستودعات للسلاح التقليدي إلى مصانع موت قد يُنقل خطرها إلى قلب الداخل اللبناني.
الخطر لم يبقَ ضمن حدود لبنان، بل امتد إلى دول الجوار. إذ أعلنت السلطات الأردنية عن ضبط خلية إرهابية كانت تُخطط لتنفيذ عمليات داخل الأردن، تبيّن لاحقاً أن عناصرها تلقوا تدريبات عسكرية في لبنان بإشراف كوادر من “حماس”. هذا التطور أكد ما بات واضحاً: أن المخيمات لم تعد فقط أزمة لبنانية داخلية، بل صارت منصات لتصدير الإرهاب إقليمياً.
وفي سياق متصل، أظهرت تحقيقات لبنانية أن إطلاق الصواريخ الأخيرة من جنوب لبنان باتجاه إسرائيل كان من تنفيذ عناصر مرتبطين مباشرة بـ”حماس”، ما اعتُبر انتهاكاً صارخاً للسيادة اللبنانية، وأعطى إسرائيل ذريعة جديدة لتوسيع عملياتها العسكرية جنوباً.
ومع هذا التصعيد الأمني، نشطت أبواق إعلامية تابعة لمحور الممانعة في تبرير الفوضى داخل المخيمات، مروّجة لما سمّته “ربيعاً جديداً”، في إطار مخطط يُمهّد لانقلاب “حماس” على الوضع القائم داخل المخيمات، وتعويض تراجعها في قطاع غزة، بعد الضربات التي تلقّتها من الجيش الإسرائيلي.
وسط هذا المشهد المعقّد، كان لافتاً موقف السلطة الوطنية الفلسطينية، التي أكدت رسمياً دعمها لأي قرار سيادي لبناني يهدف إلى ضبط السلاح غير الشرعي في المخيمات، ورفضها القاطع لاستخدام الأراضي اللبنانية كمنطلق لأي عمل أمني أو عسكري يضر بسيادة لبنان واستقراره. هذا الموقف يعكس الفجوة الكبيرة بين من يسعى لاحترام الدولة اللبنانية، ومن يرى فيها ساحة مفتوحة لصراعات إقليمية.
ولا يمكن تجاهل التحذيرات المتزايدة من أن بعض القوى اللبنانية، وعلى رأسها “حزب الله”، قد تجد نفسها أمام تحدٍ كبير إذا استمرت في استثمار الورقة الفلسطينية داخلياً. فالتجارب السابقة أثبتت أن الفتنة داخل المخيمات لا تبقى محصورة في أطرها، بل سرعان ما تنتقل إلى محيطها، ما ينذر بانفجار اجتماعي وأمني واسع قد يقوّض ما تبقّى من استقرار لبنان.
أمام هذه التحديات، تبرز الحاجة الماسّة لتحرك الدولة اللبنانية، بدعم من القوى السياسية والمجتمع الدولي، لضبط الوضع الأمني داخل المخيمات، من خلال تطبيق السيادة الكاملة على الأراضي اللبنانية، وحصر السلاح بيد الدولة، بالتعاون مع القوى الفلسطينية الشرعية، ورفض تكرار مشاهد الفوضى في غزة على الأراضي اللبنانية.
فالمخيمات وُجدت لتكون مأوى مؤقتاً للاجئين الفلسطينيين، لا أن تتحوّل إلى قواعد عسكرية أو منصات لإشعال الفتن. التغاضي عن هذا الواقع الكارثي لن يؤدي سوى إلى تسريع انهيار الدولة، ودفع لبنان نحو فوضى قد تخدم مشروعاً إسرائيلياً يسعى لتصفية القضية الفلسطينية والنيل من آخر حصون السيادة اللبنانية.
المصدر:داود رمال نداء الوطن