فرنسيس: البابا الذي جعل من التواضع ثورة ومن الرحمة نهجاً

في صباح وداعه الأخير، ينحني العالم بخشوع لروح رجل اختار أن يكون “خادماً للرجاء”. لم يكتفِ البابا فرنسيس بتلاوة الإنجيل على مسامع المؤمنين، بل جعله نهجاً لحياته، متجسّداً في آية: “من أراد أن يكون كبيراً فيكم، فليكن خادماً لكم”. ومن هذا المبدأ، قاد الكنيسة كأول بابا يسوعي، محفوراً في ذاكرة العالم من عمق الجراح، ومسجّلاً حبريّة متفرّدة.

اليوم، يُشيَّع البابا فرنسيس، فيما تبقى كلماته ومواقفه صدى يتردّد في الضمير العالمي. منذ انتخابه عام 2013، عايش حروباً، ووقف إلى جانب الفقراء والمظلومين، كسر التقاليد والبروتوكولات، اقترب من الشباب، وحثّ على التسامح وتخطّي الخصومات. وقد تميّزت حبريّته بمواقف وإنسانيّة لا تُنسى، حملت رحمته، حسّه الفكاهي، وقربه الصادق من الناس.

منذ بداياته، كتب سطوراً خارجة عن المألوف في دفتر البابوية. ففي خميس الأسرار عام 2013، غسل وقبّل أقدام 12 سجيناً، بينهم شابتان ومسلمان، في مشهد رمزي للتواضع والرحمة. وبعد سنوات، كرّر الركوع ذاته أمام قادة جنوب السودان، داعياً إلى السلام والمصالحة، لا من مذبح، بل من تراب الإنسان المجروح.

لم يكن فرنسيس مجرّد رأس للكنيسة الكاثوليكية، بل صوتاً يصرخ من قلب المأساة. في 25 أيار 2014، وأثناء زيارته بيت لحم، توقّف فجأة عند الجدار الفاصل، صلّى بصمت، ثم جمع لاحقاً الرئيسين محمود عباس وشيمون بيريز، في محاولة لصنع لحظة سلام.

في 2019، أصبح أول بابا يزور شبه الجزيرة العربية، ووقّع “وثيقة الأخوّة الإنسانية” مع شيخ الأزهر في أبو ظبي. وخلال الزيارة، اخترقت طفلة الحراسة، فانحنى كجدّ محبّ ولمس رأسها. وفي العراق عام 2021، التقى المرجع السيد علي السيستاني، في مشهد غير مسبوق للحوار بين الأديان، وجلس في الموصل بصمت، داخل عربة غولف، يستمع لحكايات ألم ومعاناة عاشها المسلمون والمسيحيون معاً.

وفي كانون الأول 2022، أثناء صلاة العذراء في روما، انهمرت دموعه حين ذكر الشعب الأوكراني: “كنتُ أتمنى أن أقدّم لك شكر الشعب الأوكراني… لكني أعود أحمل توسّلات أطفالهم، وشيوخهم، وأمهاتهم”، مؤكداً أن مريم، كما كانت تحت صليب ابنها، لا تزال إلى جانب الشعوب المعذبة.

وفي كينشاسا عام 2023، خاطب أكثر من 65 ألف شاب، داعياً إلى مستقبل يخلو من الفساد والتفرقة والريبة التي أشعلت حروب إفريقيا. قاد الهتافات بفرنسية عفوية، ملهماً الجماهير بروح الأمل.

وفي الفاتيكان عام 2024، استقبل وفداً من أهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت، واستمع لكل فرد بشخصه، وجلس بينهم لالتقاط صورة، كاسراً البروتوكول، لكنه لم يكتفِ بالتصوير، بل حمّل المسؤولية العملية للمتابعة إلى أعلى مرجع في دولته.

كان فرنسيس حاضراً في السياسة والحروب، لكنه ظلّ الأقرب إلى البسطاء، الأطفال، والمرهقين. في 2015، حاول تدوير كرة مع فريق “هارلم غلوبتروترز”، وعلى متن طائرة إلى المكسيك، ارتدى قبعة سومبريرو ممازحاً الصحافيين. التقى لاعبي NBA، صافح “سبايدرمان” الذي يزور الأطفال المرضى، وأهدى قبعته البابوية لطفل صغير.

وفي أحد اللقاءات، عندما سأله طالب مكسيكي عن ألم ركبته، ردّ ضاحكاً: “تحتاج إلى قليل من التيكيلا!”، فانفجر الحضور ضحكاً، بينهم الكهنة.

أحبّ الطبيعة، مداعباً شبل نمر في الفاتيكان، وتحدّث بروحانية مع روّاد الفضاء عن كوكبنا، متسلّماً بدلة فضائية باسمه “خورخي برغوليو”، وعليها علم الأرجنتين والفاتيكان، مؤكداً أن الأرض بيت مشترك، وكلنا مسؤولون عن رعايته.

اليوم، لا يُودَّع البابا فرنسيس كرجل دولة، بل كضمير عالمي. لقد ألبس الكرسي الرسولي ثوب الإنسان، لا ثوب الزعامة.

ما ذُكر هنا عشرون موقفاً فقط من مئات، لم تكن مفاجئة فحسب، بل صادقة في عمقها.

يودّعه العالم على رجاء أن يبقى نوره هادياً لمن يأتي بعده، وأن يظلّ صوته صوت الضمير، وسط الضجيج والثرثرة والمجد الزائل
المصدر:ماريان زوين
نداء الوطن

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top