نزع سلاح المخيّمات الفلسطينية: تحوّلات اقليمية و قرار داخلي لبناني لإتمام المهمة الشاقة!

بقلم ندى جوني

لطالما شكّلت المخيمات الفلسطينية في لبنان إحدى القضايا الشائكة التي تتقاطع فيها الأبعاد الإنسانية والسياسية والأمنية. فهذه المخيمات التي أُنشئت في أعقاب النكبة، تحوّلت عبر العقود من محطات لجوء مؤقت إلى بيئات مكتظة بالمعاناة الاجتماعية والاقتصادية، وغالبًا ما طُبعت بالعسكرة والاحتراب الداخلي، ما جعلها عُرضة للعزل والتهميش، ومرتعًا لصراعات إقليمية تتجاوز سكانها. ومع التحولات الإقليمية والدولية الجارية، برزت مقاربة لبنانية جديدة تسعى إلى إنهاء ظاهرة السلاح داخل المخيمات، عبر التنسيق مع الشرعية الفلسطينية، في محاولة لإعادة تنظيم العلاقة بين الدولة اللبنانية ومجتمع اللاجئين الفلسطينيين ضمن منطق السيادة والعيش المشترك.

و في هذا السياق، أجرى موقع ” ديموقراطيا نيوز “، حوارًا مع الخبير في الشأن الفلسطيني هشام دبسي، في إطار الإحاطة بوضع المخيمات الفلسطينية في لبنان على مختلف الأصعدة والجوانب، حيث تناول في حديثه التحولات السياسية والأمنية الأخيرة التي تؤسس لمرحلة جديدة في العلاقة اللبنانية – الفلسطينية.

تحوّلات في المقاربة اللبنانية والفلسطينية لملف السلاح في المخيمات

يرى دبسي أن الحرب التي اندلعت في 7 تشرين الأول وتجاوزت حدود فلسطين نحو لبنان وساحات أخرى، شكّلت نقطة تحوّل في موازين القوى على المستوى الإقليمي. فهذه الحرب، بما تحمله من استهدافات أميركية وإسرائيلية، لم تعد محصورة في نطاق محلي، بل أصبحت ذات صلة مباشرة بالسياق الدولي العام. ومن هنا، فإن التحولات التي أصابت أذرع إيران – مثل حركة الجهاد الإسلامي، وحماس، وحزب الله – إلى جانب تراجع النظام السوري، انعكست بوضوح على موازين القوى السياسية، ليس فقط إقليميًا بل داخل كل من الساحتين الفلسطينية واللبنانية.

انطلاقًا من ذلك، يشير دبسي إلى أن ما يجري اليوم في لبنان من قرارات على أكثر من مستوى، كما ظهر في خطاب القسم والبيان الوزاري، لا يمكن فصله عن هذا التحول الذي بدأ قبل نحو عامين. و قد جاءت زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى بيروت في هذا السياق، بهدف معالجة الوضع الفلسطيني في لبنان، ولا سيّما مسألة السلاح في المخيمات.

ويؤكد دبسي أن المشكلة لا تتعلق فقط بالجانب التقني المتعلق بالسلاح، بل ينبغي فهمها ضمن موقف سياسي فلسطيني واضح منذ عام 2005، حين افتُتحت سفارة فلسطين في لبنان. آنذاك، أعلن الفلسطينيون أنهم لا يمتلكون مشروعًا عسكريًا أو أمنيًا على الأراضي اللبنانية، بل يسعون إلى إقامة نظام ديمقراطي سلمي يضمن حق العودة. وهذا الموقف لم يتغير، إذ كرّره الرئيس عباس خلال زيارته الأخيرة، كما كان قد عبّر عنه خلال زيارة سابقة في عهد الرئيس ميشال سليمان. بالتالي، فإن الجدية في هذا الطرح ليست جديدة، بل هي جزء من مسار فلسطيني طويل يسعى إلى إنهاء الظاهرة المسلحة الممتدة منذ أكثر من قرن، والتي تعود جذورها إلى نكسة حزيران وانطلاق الكفاح المسلح.

و يتابع دبسي أن المجتمع الفلسطيني في لبنان تحوّل، بفعل السلاح، من مجتمع لاجئ إلى مجتمع عسكرة وعنف. أما الهدف اليوم، فهو الانتقال من هذا الواقع إلى حالة حوكمة عادلة، يتم فيها التعامل مع اللاجئ كفرد يعيش في دولة تحترم القانون وسيادتها. و الجديد في هذه المرحلة هو أن الجمهورية اللبنانية هي من تقود هذا التحوّل، بعدما تم تجاوز حالة التعطيل التي كانت تفرضها قوى “الممانعة”.

نحن اليوم، برأي دبسي، أمام مرحلة انتقالية جدية، قوامها تفكيك الحالة المسلحة لصالح بناء مجتمع مدني تحت السيادة اللبنانية، و هناك تقاطع سياسي بين الدولة اللبنانية والفلسطينية لتحقيق هذا الهدف.

في السياق ذاته، يشير دبسي إلى أن الخلافات بين الفصائل الفلسطينية حول مسألة السلاح تزيد من تعقيد المشهد. فهناك ثلاث فئات رئيسية للسلاح في المخيمات:

  1. السلاح بأمرة دولة فلسطين: وهو سلاح شرعي يخدم مشروع إقامة دولة فلسطينية على أراضي 1967.
  2. سلاح مرتبط بالنظام السوري السابق: وتحمله تنظيمات مثل “الصاعقة”، “القيادة العامة”، ومنشقون عن حركة فتح، إلى جانب مجموعات راديكالية أخرى.
  3. سلاح بأمرة الإسلام السياسي السنّي: تحديدًا حماس والجهاد الإسلامي، والذي يستند إلى فكر جماعة الإخوان المسلمين، ولا يعترف لا بمنظمة التحرير ولا بإعلان قيام الدولة الفلسطينية الصادر في الجزائر عام 1988.

لكن التحوّل الأهم اليوم، كما يراه دبسي، هو أن الدولة اللبنانية باتت تتعامل فقط مع الشرعية الفلسطينية المتمثلة بسفارة فلسطين ومنظمة التحرير، وترفض الاعتراف بأي جهة خارجة عن هذا الإطار. وقد طلبت الدولة من هذه الجهات الالتزام بالشرعية، أو أنها ستُعامل ككيانات منفصلة، وهو ما حصل فعليًا مع حركة حماس، حيث جرى استدعاؤها رسميًا وتم إبلاغها بضرورة وقف أي نشاط مسلح من الأراضي اللبنانية وتسليم المطلوبين.

و يعتبر دبسي أن ما تقوم به الدولة اللبنانية الآن هو تعبير عن سياسة شرعية واضحة، تُعيد ضبط العلاقة مع الجانب الفلسطيني على قاعدة التعاون بين “دولتين”، لا على أساس فصائل أو محاور. وهنا يشدّد على أن اتفاقية أوسلو نفسها كانت قد أنهت فكرة الكفاح المسلح من خارج فلسطين، حيث نقلت النضال من الجغرافيا العربية إلى الجغرافيا الفلسطينية، و بالتالي فإن المشروع العسكري الفلسطيني من لبنان لم يعد قائمًا منذ أكثر من ثلاثين عامًا.
و مع ذلك، فإن بعض تنظيمات “الممانعة”، لا سيّما تلك المرتبطة بإيران وسوريا، استمرت في تحريك العمل المسلح، رغم انتفاء ضرورته.

و على صعيد المخيمات، يؤكد دبسي أن الواقع الاجتماعي الفلسطيني هناك ازداد سوءاً بسبب وجود السلاح. فحين يتراجع العنف تجاه إسرائيل، ويتحول إلى عنف داخلي، يصبح المجتمع الفلسطيني هو المتضرر الأول. السلاح لم يعد يخدم حق العودة، بل بات يُستخدم ضد الذات الفلسطينية، ويُهدد مستقبل اللاجئين بدل أن يحميه.

و في الختام، يشدّد دبسي على أن تسليم السلاح وإخضاعه لسيادة الدولة لم يعد مجرد مطلب لبناني، بل هو ضرورة فلسطينية أيضًا. وإذا وُجدت اعتراضات، فبالإمكان معالجتها تدريجيًا. لكن الاتجاه العام، برأيه، يسير نحو مصالحة بين الشرعيتين اللبنانية والفلسطينية، وإرساء شراكة قائمة على احترام السيادة والقانون. هذه المصالحة تعكس علاقة تاريخية عميقة بين الشعبين، قائمة على العيش المشترك والمصاهرة، ويجب أن تُبنى عليها المرحلة المقبلة. أما مرحلة الحرب والعنف، فهي استثناء، ويجب تجاوزها من أجل مستقبل أكثر عدالة وسلامًا، ومن أجل شفاء الذاكرة والنفوس.

إنّ ما نشهده اليوم من تحولات في الموقفين اللبناني والفلسطيني ليس مجرّد تبدّل ظرفي، بل هو مسار جديد نحو إعادة بناء العلاقة بين الدولتين والشعبين على أسس السيادة والشرعية والحوكمة السلمية. فمرحلة العسكرة والعنف التي أرّقت الوجود الفلسطيني في لبنان لسنوات طويلة تتراجع اليوم لصالح مشروع سياسي واضح المعالم، يلتزم بالقانون ويحترم السيادة، ويطمح إلى مستقبلٍ مشترك تسوده العدالة والكرامة.

إنّ التعاون القائم بين الشرعيتين اللبنانية و الفلسطينية، رغم العقبات، يمهّد الطريق نحو تصفية مظاهر الفوضى المسلحة وتحقيق اندماج حقيقي للاجئين الفلسطينيين في مجتمع مدني تحت راية القانون. و ما دام هناك نيّة صادقة لدى الطرفين، فإنّ الانتقال من منطق السلاح إلى منطق الدولة سيكون ممكنًا، وهو خطوة ضرورية ليس فقط لحماية الأمن، بل أيضًا لمداواة ذاكرة الشعوب وبناء مستقبل يستند إلى التاريخ المشترك لا إلى لحظات الانقسام.

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة: