
بقلم خالد صالح
سأكفّ عن الهروب من تسمية الأشياء بأسمائها .. سأكفّ عن المواربة والتلطي خلف آمالٍ غدت أوهامًا، تارة كي أحافظ على “شعرة معاوية” وتارة أخرى كي لا انزلق في متاهات لستُ بوارد الولوج إليها .. سأكفّ عن القول “طوبى لك أيتها الدائرة لأنك بلا زوايا”، وسألعن جهرًا كل محاولة لتدوير الزوايا، فالحقيقة لن تكون على هيئتها إن لم تكسر حاجز الوهم وتبصم على وجودها كآخر الدواء .
سأكفّ عن محاولة ترميم هذا الجذع المتهالك .. وهذه السياسة الرعناء .. هذا الصقيع الذي يلفّنا مثل أكذوبة الشعراء، سأقول الواقع كما يحلو لي ولن أرمي شيئًا في حاوية القمامة، فقد بلغ السيل الزبى، سأطلق صوتي عاليًا ولن أغلّفه بعد اليوم بـ “ورق الألمينيوم”، بل سأجعل صراخي في وجه الباطل والنفاق حرًا، ولا خوف اليوم من لومة لائم أو من غلّ لئيم .
يقول الفيلسوف الروماني “إميل سيوران” عن حالة التبدّل العظيمة التي تُشبه الولادة من جديد: “بعد تجارب معيّنة، ينبغي علينا تغيير أسمائنا، لأننا لم نعد نحن، ولو كانت لي شجاعة كافية كل يوم كي أصرخ ربع ساعة، لتمتعت بتوازن كامل”، إنها التجربة التي تنقلك من مكان بدأت تشعر فيه بأنك غريب وعليك تبديل قناعاتك كي تستمر، إلى مكان آخر تحافظ فيه على الثوابت والمبادى والقيم التي نشأت عليها، ليست المسألة في تبدل الأسماء، فالجوهر يظلّ هو الأساس .
لبنان الفكرة
دخلنا اليوم المرحلة الأخيرة من رحلة “برسيفيني” الآلهة التي اتخذت الوردة كينونتها، وحين أتى الخريف حملت نفسها إلى العالم السفلي بحثًا عن عشيقها، دخلنا أطر “العتمة” التي تخفي معالم هشاشتنا الفظة، ننحني كـ “ورقة” أتعبها اللون والمقام فتاقت إلى موت أرجواني، أن نعيش حقًا يعني أن نرفض الآخرين، فالقبول بهم يتطلب التخلي عن الأشياء، كبح جماح الذات، إضعاف النفس، لأنه كلما عاشرنا البشر إسودّت أفكارنا، فإذا عدنا الى عزلتنا بحثًا عن النور، وجدنا في العزلة الظلال التي أفشتها تلك الأفكار.
هو “لبنان” هذه “الفكرة” التي ترفض أن تموت وتبحث عن مدىً يتسع لتوهجها مرة ثانية، وإلا فالسفر الأخير، أوجعتنا التفاصيل كثيرًا حيث لاقتنا شياطينها عند كل مفترق، وحين يُشبِع الطغاة شراستهم يتحولون الى رجال طيبين، وكان يمكن أن تعود الأمور إلى نصابها لولا غيرة “العبيد” ورغبتهم في إشباع شراستهم هم ايضًا، إن طموح “الخروف” الى أن يتقمّص دور “الذئب” هو باعثٌ للحلم لكلّ من ليس له ناب، الخروف أيضًا يريد أن يفترس.
بلغنا آخر المراحل وصار بوسعنا أن نختار ونحسم مادمنا عالقين عند سطحية الأشياء، لأنه متى ذهبنا إلى الأعماق سنشعر بالعجز الفاقع عن الاختيار والحسم، حينها سيبقى فقط ندمنا على “السطح”، لأن خوفنا من أن يتمّ خداعنا هو النسخة المبتذلة من البحث عن الحقيقة، حينها سنتألم كثيرًا .. وأن نتألم يعني بداية الطريق لإنتاج المعرفة .
الفرصة الأخيرة
الوعيُ لعنة مُزمنة وكارثة مهولة، إنه منفانا الحقيقي فالجهلُ وطنٌ والوعيُ منفىً، في مصر، كانوا يحفرون قبورهم بأنفسهم ليذرفوا فيها الدموع، فهل المطلوب منّا بعد أن بلغنا ما بلغناه أن نحفر قبورنا بأيدينا؟، الشعوب الكبيرة التي تملك زمام مآسيها تستطيع أن تنوّع فيها كما تشاء، أما الشعوب الصغيرة فإنها محكومة بالمآسي التي تُفْرَض عليها، ونحن نرضخ لقائمة طويلة من المآسي التي استوردناها كـ “تجارة” .
عاقرنا الفشل حتى الثمالة، وضربنا الانقسام طولًا وعرضًا، عموديًا وأفقيًا، وبتنا أمام خيارين، إما الانسحاب والتقهقر والانزواء والتلطي خلف الشعارات البالية، وإما المواجهة لأنها السبيل الوحيد لنا كي نُخيب ظنّ أولئك المراهنون على يأسنا وإحباطنا .. كي لا تذهب كل محاولاتنا في البحث عن وطن سدىً، وطن يتبنانا كمواطنين لا لاجئين فيه، وكي لا يصبح الوطن المنفى الجديد ..
لقد تذوقنا جميعنا من مرض الآخرين حتى عيينا بترهاتهم، نحن نعرف عن أشياء مثل الفن والحب والدين والحرب، أكثر مما يسمح لنا بالاعتقاد فيها بعد الآن، ثم أن قرونًا كثيرة اهترأت بها، لا شيء اسمه عصر الكمال، العصر الذي نحيا فيه على هيئتنا هو عصر الكمال، ولأننا في لبنان أرهقتنا التجارب آن الأوان كي نستعيد ذاتنا من أولئك الذين أرهقوا أسماعنا بمصطلحات التقوى والسيادة والمقاومة ..
لقد سقط البطل لإنتهاء مادة الصلاحية، وحدها المجازر ذات الطابع المجهول مازالت صالحة للتداول، نحن دمى واعية متحركة صالحة فقط للتهريج أمام مالا علاج له .