في استحضار المخزون الثقافي والوزن العربي المكتسب لمواجهة اخطار المرحلة

بقلم د. طلال خواجه – ديموقراطيا نيوز

يمر الشرق الاوسط بتحولات جراحية مؤلمة بدون بنج او مسكنات، بعض سماتها انفلات التوحش الاسرائيلي المدعوم اميركيا من عقاله بشكل غير مسبوق، وسط ذهول وشبه صمت عالمي يقارب التسطيل، رغم مظاهر الاعتراض الشعبي و مؤخرا الرسمي الاوروبي والغربي عموما، ولكن الفاقد للتأثير والفعالية امام هول المشهد الذي يرسمه جبروت الثنائي ترامب/ نتانياهو.
واذ يقود المايسترو الاميركي سمفونية الحرب والسلام باسلحة الذكاء الاصطناعي محاولا توحيد نغماتها في خدمة الباكس اميركانا و المصالح الاستراتيجية الاميركية في المنطقة، فإن ما يغذيها ايضا هو مصالح و اطماع و هواجس و طبيعة قوى المثلث الاقليمي اسرائيل، ايران و تركيا.
و مع اننا لا نرغب في الوقوع في اي التباس عبر المساواة بين القوى الثلاث في مستوى عدائيتها واطماعها و توحشها، الا اننا نرى ان تصاعد الشعور القومي والمذهبي و تمدد الاذرع الايديولوجية والامنية، خصوصا الايرانية منها، والعبث في دول و مجتمعات وشعوب وقضايا المنطقة العربية، خصوصا في فلسطين ولبنان و سوريا والعراق، ساهم في تقوية اليمين القومي والديني التوراتي المتطرف في اسرائيل. علما ان هذا التطرف الغير مسبوق تعزز سيطرته مع تصاعد نفوذ اليمين الشعبوي في الغرب و مع تمدد الحركة الصهيونية المسيحية الانغليكانية التي كانت في اساس الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر، محدثة(updated) هذه المرة بعودة التنظير للحضارة المسيحية/اليهودية و ما يرافقها من اسلاموفوبيا و عربوفوبيا.
و غني عن البيان ان القوى و المنظمات المتطرفة في ايران واسرائيل و في عموم المنطقة كانت الاكثر افادة من الغزو الاميركي البريطاني للعراق بتداعياته الكارثية على الدول والشعوب العربية.
يحلو للكثير من المحللين في لبنان ان يعتبر المنطقة قد دخلت في مورفولوجي جيوسياسي يذكر بمرحلة تشكل الدول والكيانات الحالية في اعقاب الحرب الكبرى، حتى أن تصريحات توم براك حول مستقبل بلاد الشام احدثت تخوفا و قلقا في صفوف اللبنانيين جميعا وليس في “طرابلس الشام” فقط.
و مع أن اكثرية اللبنانيين و منهم بالطبع الطرابلسيين هللت لانهيار النظام الاسدي المتوحش، الا ان “التطبيع” مع النظام الجديد الذي يتعرض لامتحانات وتحديات وتجارب قاسية ما زال بطيئا وملتبسا.
فقد تخربت سوريا العربية على مدى اكثر من سبعين عاما من الانقلابات والديكتاتوريات و المذهبيات، خصوصا في عهد الاب والابن، ولم تعد قلب العروبة النابض الذي واجه الأتراك اولا ثم الفرنسيين ثانيا و الصهيونية ثالثا.
و اذ لا تختزن الذاكرة المكثفة لاكثرية اللبنانيين سوى الجوانب الرمادية من سوريا، فقد انطلقت مباراة في اللبننة شارك فيها الطرابلسيون الذين نبشوا تاريخ وحجم ودور و فرادة الولاية الطرابلسية من عهد الفاطميين و بنو عمار، مرورا بالمرحلة الصليبية، وصولا للعهد العثماني. و البعض ذكر بمنشئها الفينيقي حين تأسست كواحة تلاقي وتواصل بين المدن الفينيقيّة الاخرى.
كما ان بعض الاقلام حولت متصرفية جبل لبنان الى “كيان لبناني” ضاهى الدول الاوروبية الحديثة، رغم ان الكثير من مثقفيه هجره الى “بيروت الصاعدة” والاسكندرية و القاهرة و باريس ونيويورك وغيرها من الحواضر العالمية قبل ان يعود معظمهم و يساهموا في نهضة دولة لبنان الجديد الثقافية.
لبنان وطن نهائي لجميع ابنائه، عربي الانتماء، متجذر الثقافة الحرة التي تشكل اهم رافعاته. وللمرة الاولى ربما هناك نظام جديد يعمل على توحيد سوريا الحالية وغير طامع في لبنان، رغم عدم اعجابنا بالكثير من منطلقاته الفكرية والدستورية و مقارباته الامنية.
ولكن يخطئ من يظن ان تاريخ لبنان الحديث كان منفصلا عن تاريخ سوريا الحديثة وباقي دول المشرق والعكس صحيح. فالمؤتمر العربي السوري الذي اعلن الاستقلال في ٨ اذار ١٩٢٠ من دمشق انتخب لبنانيا هو الشيخ الاصلاحي الطرابلسي رشيد رضا رئيسا للمؤتمر بعد تكليف رئيسه هاشم الاتاسي بتشكيل حكومة الاستقلال الاولى وانتخب الامير المتنور فيصل ملكا دستوريا غير مسؤول لان الحكومة مسؤولة امام البرلمان. و تشكلت الحكومة من وزراء ليبراليين كفارس الخوري و عبد الرحمن شهبندر و رضا الصلح و جورج رزق الله وساطع الحصري و يوسف العظمة، و كلف المؤتمر استاذ الحقوق المندوب الطرابلسي عثمان سلطان بادارة جلسات اقرار الدستور الذي صاغته لجنة دستورية متنوعة، و هو كان اول دستور عربي يفصل بين الدين والدولة رغم الاقرار بان الاسلام هو دين الملك وليس دين الدولة كما اشاعت سلطات الاحتلال الفرنسي،(لبنان لحقه في دستور ١٩٢٦).
و اعتبر الدستور جميع المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، معتمدا اللامركزية الادارية الموسعة والحكم الذاتي للمقاطعات، كما اسس لقانون انتخابات ديمقراطي بغرفتين مع كوتا بتمثيل اوسع للتنوع( الاقليات)، و كاد ان يقر بحق الانتخاب للمرأة لولا الخوف من التصدع الداخلي على قرع طبول الحرب الفرنسية على المملكة الوليدة، فترك البند معلقا مع وعد لماري عجمي و “لجان دارك سوريا” نازك العبد بالاقرار بعد الاستقرار.
و قد استقطبت المملكة العربية السورية وفود التأييد من منوعات و مقاطعات و بلاد واسعة، بينها وفد من اكثر من نصف المجلس الاداري للمتصرفية برئاسة سعدالله الحويك شقيق البطرك الماروني بعد اجتماع مع رياض الصلح( و لا يعني ذلكً بالطبع تأييد الاكثرية المارونية المعارضة)، الا ان الجنرال غورو اعتقل الوفد و حل مجلس المتصرفية، و لاحقا دمرت قواته المملكة الوليدة فقتل و اعتقل وهجر الكثير من الليبراليين الحداثيين التغييريين بعد مهادنة القومي التركي مصطفى كمال وبتواطؤ فرنسي بريطاني كولونيالي، مما ارسى الارضية لتسيد طبقة كبار الملاكين والتجار والاعيان والشعبويين الدينيين والمتزلفين و لاحقا العسكريين والديكتاتوريين وصولا لحكم البعث و الاسدين، و مما ساهم في اطلاق حركات الاسلام السياسي على خلفية تعثر وتفكك الحلف الليبرالي/ الاصلاحي الذي آمن بالحداثة وبالمبادئ الولسونية.
وللمفارقة فان الوفد الذي ذهب الى باريس ولندن وجنيف للدفاع عن الاستقلال السوري كان برئاسة المسيحي الطرابلسي حبيب لطف الله في الوقت الذي كان الثلاثي ميليران/ غورو/ دوكية يتهمون حكومة الاستقلال باضطهاد المسيحيين، مستفيدين من بعض الاحداث المؤسفة.
لا نرمي من هذه العجالة استعادة الحقبات التاريخية التي طواها الزمن، خصوصا بعد ان ترسخت الكيانية اللبنانية بالميثاق الوطني بين بشارة الخوري و رياض الصلح ولاحقا عبر اتفاق و دستور الطائف الذي اوقف الحروب الاهلية رغم استنسابية التطبيق نتيجة الوصاية المتحولة لاحتلال سوري ولاحقا ايراني بواسطة حزب الله بعد زلزال اغتيال الحريري.
ما ندعو له هو استلهام المخزون النضالي والديمقراطي والثقافي الوطني و المشترك بين الشعبين الشقيقين، معطوف على المصالح العميقة و المتبادلة بين البلدين السيدين، لصياغة افضل العلاقات و حل جميع القضايا العالقة بطريقة صحيحة و موضوعية و دون تلكؤ، بما فيها قضايا الترسيم البري و البحري و قضايا النازحين والمفقودين والمسجونين.
ولا بأس ان تتظلل الحلول مظلة ونظام المصالح العربية المتشكل حديثا و المتحول لقوة عربية اقليمية يحسب لها ، وفي مقدمها المظلة السعودية التي ما زالت تنظر بالود و التعاطف مع البلدين العربيين المعرضين لشتى الاخطار.
لا شك ان التمسك بلبنان و بدستوره وبالعروبة الثقافية يشكل زوادة مهمة في رحلة استعادة الدولة التي أنهكتها الحروب والاحتلالات والازمات والتوحش الاسرائيلي المستمر فصولا، خصوصا مع الخطوة الجبارة التي خطتها الحكومة مؤخرا في استعادة زمام المبادرة في قضية احتكار السلاح و بسط سيادة الدولة على كامل اراضيها بقواها الشرعية.
لا احد يقلل من صعوبة و حساسية وخطورة التنفيذ، خصوصا ان حزب الله مصر على رهن الطائفة الشيعية حماية لسلاحه المرتهن بدوره لايران و فجورها السياسي رغم هزيمة محورها.
و البعض يشبه ضجة الحزب المهزوم بسيارة متدهورة و مذياعها ما زال يزعق. ذلك ان الكل بات يدرك بما فيهم الاخ الاكبر، انه لا خيار ولا حياة للبلد بجميع طوائفه، خصوصا الطائفة الشيعية التي دفعت بسبب العبث الحزب اللاهي ثمن التغول الاسرائيلي مضاعفا، الا باستعادة الدولة لقرارها و لسيادتها عبر قواها الشرعية و تطبيق ١٧٠١ بكامل مندرجاته، كما بالشروع بالاصلاحات التي ضجرنا من تكرار عناوينها والتي تحاول ان تشق طريقها بصعوبة بين أفخاخ الطبقة السياسية المتجذرة.

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top