من الردع الى العجز: حزب الله والخيارات المصيرية

بقلم رفيق عبدالله- ديموقراطيا نيوز

في الضاحية الجنوبية لبيروت، ردد الناس لسنوات أنّ “حزب الله” قادر على حماية لبنان وردع إسرائيل. لم يكن الأمر مجرد شعار؛ بل تحوّل إلى عقيدة جماهيرية راسخة: الحزب لا يملك فقط صواريخ قادرة على إصابة أي هدف في إسرائيل، بل يمتلك أيضاً خطط اقتحام الجليل.
بهذه اللغة بنى الحزب صورته وهيبته، وحافظ على التماسك داخل بيئته، وأقنع شريحة واسعة من اللبنانيين أنّه يشكّل ضمانة وحيدة في وجه العدو. لكن ما حدث في السنة الأخيرة كشف هشاشة تلك الصورة، إذ جاءت ضربات إسرائيلية دقيقة لتستهدف مراكز أساسية وتُظهر أن ما بُني طيلة عقد ونصف من الدعاية يمكن أن ينهار في ساعات.
فجأة، وجد الحزب نفسه مضطراً للقبول بهدنة وُصفت بالمذلّة في نظر كثيرين، فيما الاحتلال ما زال جاثماً على أراضٍ لبنانية والخروقات الجوية لم تتوقف.

الحرب، كما كتب سن تزو منذ قرون، هي فن الخداع. “حزب الله” استوعب هذه القاعدة مبكراً، فاستثمر في العروض العسكرية والخطابات المدوية والحديث عن آلاف الصواريخ الدقيقة، مع إيحاءات متكررة بأن اقتحام الجليل مسألة وقت. لم يكن الهدف خوض معركة فعلية بقدر ما كان صناعة وهم الردع، أي أن يقتنع الخصم والجمهور معاً بقدرة خارقة حتى لو لم تكن موجودة بالكامل.

إسرائيل من جانبها لم تكن ساذجة، فقد أشارت تقاريرها الاستخباراتية منذ سنوات إلى الفجوة الكبيرة بين قدراتها العسكرية الهائلة وبين ما يمتلكه الحزب، لكنها لم تسع إلى فضح الوهم بل تركته يتضخم، لأن وجود “حزب الله’ كلاعب مهدِّد يخدم صورتها كضحية محاطة بالأعداء ويضمن استمرار تدفّق الدعم الأميركي والأوروبي. في لعبة الخداع هذه، كذب الطرفان على جمهورهما، لكن إسرائيل كانت تعرف متى تضغط على الزر لتسقط القناع.

الضربة الأخيرة لم تدمّر فقط البنية التحتية العسكرية للحزب، بل ضربت أيضاً جوهر سرديته: فكرة أنّه قادر على منع الحرب أو قلب ميزانها.
في ساعات قليلة انتقل الحزب من موقع المدافع عن لبنان إلى موقع المتلقي للضربات من دون رد حقيقي. وهنا يتجلى ما أشار إليه جون ميرشايمر في حديثه عن الأكاذيب السياسية: الكذبة قد تُقنع الداخل لفترة، لكن لحظة الحقيقة كفيلة بتحويلها إلى عبء قاتل.
وبينما يحاول الحزب التذرع بالتزامه بقرار الحكومة ليبرر صمته، فإن جمهوره يدرك أن المشكلة أعمق وأن القدرة الفعلية على المواجهة تراجعت بشكل حاد.
اليوم، يدرك “حزب الله” أن أي محاولة لاستعادة قدراته العسكرية تبدو شبه مستحيلة. الحدود مع سوريا لم تعد مفتوحة كما في السابق، والنظام السوري الجديد أقرب إلى العداء أو على الأقل لا يسهل عمليات نقل السلاح من إيران. وحتى لو وصلت بعض الإمدادات، فماذا يمكن أن تضيف فوق ما كان لديه عند بداية المعارك؟ لا شيء جوهري.

أمام هذا الواقع تتقلّص الخيارات إلى مسارين لا ثالث لهما: الأول هو إدارة انتقال تدريجي نحو كنف الدولة، عبر تسليم مسؤولية الدفاع إلى المؤسسات الرسمية مع محاولة الاحتفاظ بالسلاح – أو وهم امتلاكه – لأطول فترة ممكنة تحت ذرائع مختلفة.
والثاني هو انقلاب في السردية: من حامي لبنان في مواجهة إسرائيل إلى حامٍ للوجود الشيعي في مشهد إقليمي متخم بالهويات الأقلوية المتصارعة، حيث يحتفظ الدروز بسلاحهم في السويداء والأكراد بسلاحهم في الشمال الشرقي السوري.
لكن هذا التحول لن يكون سهلاً، وقد يفتح الباب على انشقاقات داخلية وصراع في البيت الواحد.
ما لم يختَر الحزب هذا المسار او ذاك، فلن يبقى أمامه سوى خيار الركون إلى حالة الستاتيكو، تلك الاستراتيجية الإيرانية القديمة التي تقوم على الصبر والانتظار حتى ينهك الخصم أو تتغيّر الظروف!!..

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top