
بقلم ندى جوني
أثار تسليم الفنان فضل شاكر نفسه إلى مخابرات الجيش اللبناني عند أحد مداخل مخيم عين الحلوة، تفاعلاً واسعاً في الأوساط اللبنانية، نظراً لما تمثّله قضيته من تشابك بين الجانب القضائي والسياسي والفني. فالحدث يأتي بعد أكثر من عشر سنوات من الاتهامات والجدل الذي رافق اسم الفنان فضل شاكر منذ أحداث عبرا عام 2013، والتي غيّرت مسار حياته بشكل كامل!!..
بدأ فضل شاكر مسيرته الفنية في التسعينيات وحقق شهرة واسعة بأغانيه الرومانسية الهادئة، وجد نفسه لاحقاً في قلب ملف أمني معقّد، ظلّ محور نقاش بين من اعتبره مذنباً، ومن رأى فيه ضحية مرحلة مضطربة اتّسمت بالتجاذب السياسي والطائفي في لبنان.
اليوم، ومع مبادرته إلى تسليم نفسه، يعود السؤال إلى الواجهة حول مستقبل هذا الملف، وكيف سيتعامل القضاء اللبناني مع قضية فنانٍ دفع ثمن التحوّلات السياسية في البلاد.
فهل تفتح هذه الخطوة الباب أمام تسوية قانونية تعيد الأمور إلى نصابها؟ أم أننا أمام فصل جديد من الجدل الذي لم يُغلق بعد؟
البدايات الفنية وصعود الصوت الرومانسي
نشأ الفنان فضل شاكر في بيئة اجتماعية بسيطة عُرفت بتنوعها الثقافي والطائفي. منذ سنواته الأولى، كان فضل مولعاً بالموسيقى. وفي مرحلة المراهقة بدأ يغني في الأعراس والمناسبات الشعبية في صيدا ومحيطها، فلفت الانتباه بصوته المميز. إن هذا الاحتكاك المبكر بالجمهور ساعده على صقل موهبته، ومنحه خبرة في الأداء الحي قبل أن يدخل عالم الإنتاج الفني المحترف.
في نهاية التسعينيات، قرر شاكر أن يحوّل حلمه إلى واقع، فبدأ يتعاون مع ملحنين ومنتجين لبنانيين وعرب، حيث أطلق ألبومه الأول عام 1998 بعنوان “والله زمان” تحت إشراف شركة “الخيول”، وهو العمل الذي شكّل انطلاقته الفعلية في الساحة الغنائية، وأظهر قدرته على المزج بين الإحساس الشرقي الكلاسيكي والصوت المعاصر. فتح نجاح الألبوم أمامه أبواب التعاون مع أسماء كبيرة في التلحين والتوزيع. خلال السنوات اللاحقة، رسّخ فضل شاكر موقعه في المشهد الغنائي اللبناني والعربي من خلال سلسلة من الألبومات التي حققت انتشاراً واسعاً، حيث برز شاكر كصوت رومانسي مختلف عن السائد، يجمع بين البساطة والأصالة، ويعتمد على الأداء الهادئ والإحساس الحقيقي أكثر من الاستعراض أو المبالغة.
بحلول منتصف الألفية الجديدة، أصبح اسم فضل شاكر مرادفاً للأغنية الرومانسية الهادئة التي تراهن على الإحساس لا على الإبهار. ومع تطور تجربته، بدأ يشارك في تلحين بعض أعماله، ما عكس نضوجاً فنياً ورغبة في السيطرة على ملامح صوته ومساره الفني. لم يكن مجرد مؤدٍّ للأغاني، بل فناناً يدرك قيمة الكلمة واللحن، ويحرص على اختيار ما يقدمه بعناية. هكذا، في أقل من عشر سنوات، انتقل فضل شاكر من مغنٍ ناشئ في مدينة صيدا إلى نجم عربي من الصف الأول، محاط بجمهور واسع يقدّر فنه ويثق بصوته.
التحوّل والانكفاء عن الساحة الفنية
أعلن فضل شاكر اعتزاله الفن عام 2012 بعد تحوّل في توجهاته الدينية، وهو القرار الذي صدم جمهوره في لبنان والعالم العربي، إذ كان معروفاً بصوته الرومانسي وأداءه الهادئ. انخرط في هذه الفترة في فكر سلفي، وتقرّب من بعض الشخصيات الدينية المثيرة للجدل في صيدا، وفي طليعتها الشيخ أحمد الأسير، مما ربط اسمه بالأبعاد السياسية والأمنية أكثر من الفن.
اندلعت في شهر حزيران من عام 2013 اشتباكات مسلحة في منطقة عبرا بين الجيش اللبناني ومسلحين موالين للشيخ أحمد الأسير، وأدت إلى استشهاد عدد من العسكريين ولم يكن “حزب الله” بعيدًا عن هذه الأحداث!..
ظهر اسم شاكر في مقاطع مصورة مرتبطة بتلك الأحداث، ما دفع السلطات إلى اتهامه رسمياً بالضلوع في أعمال مسلحة، وأصبح مطلوباً للقضاء اللبناني منذ ذلك الحين.
ظل شاكر على موقفه، مؤكدًا لاحقاً أنه لم يشارك فعلياً في القتال، وأن الاتهامات كانت نتيجة صراعات سياسية أكثر من كونها قضائية. بعد ذلك، اختفى عن الأنظار ولجأ إلى مخيم عين الحلوة، حيث أمضى سنوات في الاختباء، وخلال هذه الفترة صدرت بحقه عدة أحكام غيابية، أبرزها حكم بالسجن 15 عاماً عام 2017، وأخرى لاحقة تتعلق بالتورط في أعمال إرهابية.
العودة إلى الساحة الفنية وتسليم نفسه للقضاء
استعاد فضل شاكر تواجده الفني تدريجياً بعد سنوات من الإنكفاء، وبدأ في نشر أعمال غنائية جديدة، ما أعاد اهتمام الجمهور والإعلام إليه. ومع هذه العودة، أثبت شاكر أنه يركز على مسيرته الفنية وحماية إرثه الغنائي، بعيداً عن أي صراعات سياسية أو أمنية.
لكنه فاجأ الرأي العام بتسليم نفسه، يوم 4 تشرين الأول 2025 لقوة تابعة لاستخبارات الجيش اللبناني عند حاجز الحسبة في مدخل مخيم عين الحلوة. جاء هذا القرار تتويجاً لجهوده القانونية المستمرة طوال السنوات الماضية لتوضيح موقفه، وإثبات براءته من التهم الموجهة إليه منذ أحداث عبرا في 2013. حيث أكد شاكر في تصريحات لاحقة أنه لم يشارك في إطلاق النار أو أي أعمال مسلحة ضد الجيش اللبناني، وأن قضيته يجب أن تُعالج كملف قضائي وإنساني بعيداً عن أي ضغوطات سياسية.
في المقابل، أشاد محاموه بموقفه، معتبرين تسليمه خطوة مسؤولة ونموذجية للتعاون مع القضاء، بما يعكس التزامه بالقانون ورغبته في تصحيح مسار حياته بعيداً عن النزاعات.
كما اعتبر الجمهور اللبناني والعربي هذه الخطوة دليلاً على شجاعة شاكر في مواجهة التهم، وأشادوا بعودته إلى الفن بعد سنوات من الغياب القسري، مؤكدين أن الساحة الفنية تحتاج لصوته الدافئ والحساس وأن مسيرته الفنية تستحق الدعم والتقدير طالما التزم بموقفه القانوني والإنساني.
آن الأوان أن يُطوى ملف فضل شاكر بعد سنوات طويلة من الغموض والاتهامات التي طالته منذ أحداث عبرا في 2013، خاصة وأنه لم يشارك في أي أعمال مسلحة ضد الجيش اللبناني. لقد أثبت شاكر خلال مسيرته الفنية أنه فنان مخلص لصوته ولجمهوره، وقدّم أغاني تركت بصمة في الغناء العربي واحتلت مكانة خاصة في قلوب المستمعين.
وفي هذا السياق، يجب أن يتصرف القضاء اللبناني بعدالة وموضوعية، بعيداً عن أي ضغوطات سياسية أو محاولات الالتفاف، ليتمكن شاكر من استعادة مسيرته الفنية وإعادة بناء مساره الإبداعي.
يعدّ تسليم شاكر نفسه للقضاء خطوة مسؤولة ونموذجية، ويجب أن يقابل بالحياد والإنصاف. فقد تحمل سنوات طويلة من الغياب والإشكالات القانونية، وجاء اليوم ليضع يده على الحقيقة ويتيح للعدالة أن تقوم بدورها.
لذلك، فإن منحه فرصة لإغلاق هذا الملف لا يعني تجاوز القانون، بل احترامه، وتمكينه من العودة إلى الجمهور الذي ينتظره بشغف، ومنح العالم العربي صوته وألحانه التي طالما ألهبت المشاعر وأثرت في الحياة الفنية.
