
بقلم جوزاف وهبه
يتباهى حزب الله، من مدينة كميل شمعون الرياضيّة، برعاية العلم الإيراني، أنّه قد نجح في تنظيم “أكبر تجمّع كشفي في العالم” بمناسبة الإحتفاء المتسلسل بذكرى اغتيال أمينيه العامّين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، بعد أن كان يتباهى، في الزمن الغابر، بترسانة عسكريّة من 100 ألف صاروخ، وبجيش جرّار من 100 ألف مقاتل رضوانيّ كربلائيّ من أولي البأس!..
وللتشبيه والتشابه، نتذكّر الإحتفالات اللبنانيّة الفينيقيّة، تارةً بأكبر صحن حمّص، وطوراً بأكبر صحن تبّولة، لنكتشف عند كلّ إستحقاق سياحي، أنّ لا الحمّص ولا التبّولة بالكافيين لاستدراج السيّاح من العالم، حيث تحتلّ عناوين الأمن والسياسة والإستقرار الأولويّة في جذب حتّى المغتربين الذين يحنّون إلى الأهل والأقارب..وهكذا نصل إلى “فخر الصناعة الحزباللهية” الجديدة..ونتساءل:
ماذا يعني أن يرفع الحزب راياته الصفراء بين صخرة الروشة والمدينة الرياضيّة، وهل ذلك يكفي لإعادة النازحين إلى قراهم وبيوتهم التي هدّمها (ولا يزال) العدوّ الإسرائيلي الغاشم المغتصب المتوحّش؟ هل يمنع “التجمّع الكشفي” الطيران من تدمير إقتصاد مئات العائلات الجنوبيّة، كما فعل مؤخّراً في “غزوة المصيلح”، حيث أُزيلت من الوجود مئات الجرّافات والشاحنات والآليّات الضخمة المهيّأة، مبدئيّاً للإعمار، عندما يحين الوقت؟ هل يعوّض الحزب على هؤلاء، طالما أنّ الدولة عاجزة عن ذلك ربطاً بأنّ الحزب يرفض تسليم سلاحه (سلاح الحسين والله والكرامة والطائفة..)، كما يشترط المانحون المفترضون بإدارة “الشيطان الأكبر”؟ (وللمناسبة طريف ما قاله الرئيس الإيراني بأنّ طهران لا تقصد بهذا التوصيف، لا الإدارة ولا الشعب الأميركيين..فمَن يكون المقصود، إذاً؟).
ماذا يعني أن يتحوّل الحزب إلى “منظّم” إضاءات ومهرجانات تحت مرمى الطائرات المسيّرة التي تختال فوق بيوت الضاحية، وداخل نوافذ الجنوبيّين والجنوبيّات، دون أن يرشقها أحد بوردة، وطالما أنّ مخازن السلاح المخبّأة، حتّى إشعار آخر، لا يمكن الوصول إليها، كما لا يمكن استعمالها، في ظلّ التحوّلات العميقة في المنطقة، وفي ظلّ التفوّق العسكري – الإستخباراتي للعدوّ الإسرائيلي – الأميركي المشترك؟
وفي سياق استكمال عناصر المشهديّة السورياليّة، نسأل:ماذا بعد “إتّفاق غزّة” (ولمَن يُحبّ، نسمّيه إنتصار غزّة)، هل لا يزال شعار “في الطريق إلى القدس” ساري المفعول ك “سلوغان” للشهداء السعداء الذين لا زالوا يسقطون الواحد تلوَ الآخر في موجة الإستكبار الصهيوني، والتعنّت الكربلائي؟ أما حان وقت المراجعة والتبصّر في مآل الواقع المرّ، وهو أنّ “طريق المصيلح” تكاد تكون سالكة، فكيف الحال بالطريق إلى القدس؟..
ألا يجب على قيادة الحزب أن تعيد النظر بكلّ سرديّاتها بما يتناسب مع واقع الحال، بعيداً عن الإرتباط العضوي بمصالح الإمام الخامنئي وتوجيهاته التي أصابت كامل دول المحور (محور الممانعة) باللعنة القاتلة/ حيث أُطيح بالرئيس السوري بشّار الأسد إلى أحد فنادق موسكو، وأُزيحت حركة “حماس” قيادةً وعناصرَ عن إدارة القطاع، وشُلّت قدرات الحوثيين في البحر الأحمر..وباتت “اليد الطولى” لحزب الله محصورةً في ميادين الموتوسيكلات وإنارة الصخرة والأناشيد الكشفيّة، ليس إلّا!..
ألا يجب على الشيخ نعيم قاسم أن يكفّ عن تحميل الدولة مسؤوليّة وكلفة ما “جنت يداه” في ميادين السياسة والحرب والإقتصاد والعلاقات اللبنانيّة العربيّة – الغربيّة؟..
ألم يحن الوقت للقيام بما يلزم من “خطوة إلى الوراء” إفساحاً في المجال أمام أركان الدولة (وخاصّة الرئيسان جوزاف عون ونوّاف سلام) للقيام بما يجب أن يقوما به من بسط شبكة أمان فوق كلّ لبنان، ما يجعل “طريق الإعمار” سالكةً على خطّ الدول المانحة التي تشترط إنكفاء الدويلة لصالح الدولة، أوّلاً وثانياً وأخيراً!
لم يعد هناك من متّسع وقت للإستعراض والعنتريّات والتهرّب من المسؤوليّة.كلّ يوم، يستشهد مواطن وأكثر.كلّ يوم، تتشرّد عائلة، وأكثر.كلّ يوم، يفقد جنوبيّ رزقه وماله، وأكثر.الوقت من دم وخراب وموت.فلنحتكم إلى العقل.فلنستسلم لمنطق الدولة، كلّ ما عدا العقل والدولة سقوط في الفراغ والخسائر المتراكمة.تجربة غزّة موجعة مؤلمة فادحة، فاجتنبوها.تجربة غزّة ماثلة أمام العيون، ولا ينفع في تجنّبها مراعاة نبيه برّي، أو الوقوف على خاطر وفيق صفا، أو البكاء على أطلال الأمينين العامّين الراحلين.
خسرنا الحرب، إعترفنا بذلك، أو لم نعترف.ميزان القوى مختلّ لصالح عدوّنا، مهما كابرنا ومانعنا بسيل من الشعارات الفضفاضة التي لا تبدّل قيد أنملة في قساوة الواقع.إرحموا مَن صمدوا في الجنوب.إرحموا مَن لجأوا إلى الضاحية.أتركوا البقاع يتنفّس زراعةً ومعاملَ وازدهاراً.دعوا لبنان يخرج من عنق الزجاجة..فمهرجان من هنا، وتظاهرة من هناك، وصراخ “شيعة شيعة” من هنا وهنالك، لن يُعيد الروح إلى الجسم المتهالك..والحزب، يا “شيخ نعيم” قد بات جسماً متهالكاً، بلا رأس، ولا أذرع، ولا قائمة تقوم!
وأخيراً، ليس ب”أكبر صحن تبّولة” يستعيد لبنان سياحته وعافيته..ولا ب”أكبر تجمّع كشفي” يستعيد حزب الله سطوته وهيبته وتوازنه الإستراتيجي..الذي كان مجرّد وهم، وللأسف وهم قاتل!
