جرس بافلوف… والصمت الذي يحرّر الوطن

بقلم إلياس عيسى إلياس

«من لا يعرف الصمت بعد الجرس، لا يعرف معنى الحرية»

من مختبر بطرسبرغ إلى مختبر الوطن

في مختبر بطرسبرغ، كان العالِم الروسي إيفان بافلوف يقرع الجرس، فيسيل لعاب الكلاب قبل أن ترى الطعام.
تجربة علمية بسيطة تحوّلت مع الزمن إلى استعارة كبرى عن الإنسان الحديث: كائنٌ مبرمج يستجيب قبل أن يفكر، يتحرّك حين يسمع الصوت، لا حين يسمع ذاته.
تلك اللحظة التي تفصل بين الجرس والاستجابة، كانت وما تزال سرّ الحرية.

وفي لبنان، حيث تتوالى الأجراس الانتخابية والطائفية والسياسية، يصبح السؤال المصيري:
هل نستطيع أن نصمت بعد الجرس؟

الإنسان بين بافلوف والعصر الحديدي

لقد دخلنا منذ زمن ما أسميه العصر الحديدي، لا لأن الحديد يملأ مدننا، بل لأن أرواحنا صارت مقيّدة بسلاسل غير مرئية من الخوف والعادة والانتماء الموروث.
إنها القيود التي تجعل المواطن يصفّق قبل أن يفهم، ويخاف قبل أن يفكّر، ويطيع قبل أن يختار.

كل جرسٍ في هذا الوطن — من المآذن إلى أجراس الكنائس إلى الشاشات، من المكاتب إلى الطوابير — يطلب استجابة جاهزة.

دراسات نفسية واجتماعية عديدة تثبت أن استجاباتنا السياسية تتحكم بها أنماط نفسية راسخة مثل الخوف من الآخر والشعور بالانتماء، إضافة إلى تأثير الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي تعزز ردود الفعل السريعة وتُكرّس الاستقطاب العميق.

هكذا تحوّل لبنان إلى مختبرٍ كبير:
كأنّ المواطن صار كائنًا بافلوفيًّا تُحرّكه الأجراس، يُستثار حين يريد الآخرون، ويسكت حين يأمرون.

لبنان: مختبر الأجراس الكبرى

في كل موسم انتخابي، تتناثر الأجراس من كل صوب:
جرس “الخطر الطائفي”، جرس “المؤامرة الخارجية”، جرس “الزعيم المنقذ”، وجرس “الرزق والوظيفة”.
تتحرّك الجموع، تصرخ، تُعيد انتخاب من دمّرها، وكأنها تسير في حلقة بافلوفية مغلقة.

غير أن تجارب دول عربية ودولية بيّنت أنه يمكن كسر الحلقة إذا توفرت لحظة تأمل جماعية عبر مبادرات تعليمية وإعلامية صادقة ترافق المواطن في مرحلة ما قبل الانتخابات وبعدها.

إننا لا نعيش أزمة زعماء، بل أزمة وعيٍ جمعيٍّ لا يعرف كيف يتوقف قبل أن يصفّق.

كيف نكسر الجرس قبل انتخابات 2026؟

  1. جرد الأجراس الشخصية
    اكتب على ورقة: ما الذي يثير حماسك السياسي؟ أيّ الكلمات تجعلك تتحرك؟
    هل هي “مقاومة”، “إصلاح”، “دين”، “زعيم”، “خطر”؟
    اسأل نفسك: لماذا تستجيب لها بهذه السرعة؟ هل هو خوف؟ عادة؟ مصلحة صغيرة؟
    الوعي بالجرس هو أول خطوة لتحطيمه.
  2. التوقف قبل المشاركة
    قبل أن تعلّق على منشورٍ سياسي أو تشارك خبرًا تحريضيًا، خذ عشر دقائق صمت.
    اقرأ المصدر، واسأل: من المستفيد من إثارة انفعالي؟
    إنها عشر دقائق من الصمت تساوي سنواتٍ من الحرية.
  3. موازنة الأداء بالوعود
    عندما تسمع وعود المرشحين في 2026، لا تنبهر بالأجراس البلاغية.
    قارنها بسجلّهم: ماذا أنجزوا في السنوات الأربع الماضية؟
    إذا كانت الوعود تكرّر الفشل القديم، فالصمت عنهم واجب وطني.
  4. تحديد الأولويات الوطنية
    اختر ثلاث قضايا تمسّ حياتك مباشرة (مثل الكهرباء، أموال المودعين، القضاء).
    اجعلها مقياسك الوحيد للتصويت.
    ليكن جرسك الجديد هو المصلحة الوطنية لا الطائفية.
  5. الصمت قبل التصويت
    في يوم الانتخاب، قبل أن تغمس إصبعك في الحبر، خذ نفسًا عميقًا واغمض عينيك.
    ذكّر نفسك: “هذا الصوت ليس لأحدٍ سواي. هو حريتي وكرامة أطفالي.”
    ثم ضع الورقة بوعيٍ كامل، لا كردّ فعلٍ تلقائي. المؤسسات المدنية والتعليمية والإعلامية

لا يقتصر كسر الحلقة على الفرد، بل على المؤسسات التي تخلق بيئة وعي مستدامة.
يجب أن تلعب المدارس والجامعات دور المختبر الإيجابي لتربية سياسية قائمة على التفكير النقدي، لا التبعية العاطفية.
أما الإعلام الحر والنزيه، فعليه مسؤولية كبرى في فضح المظاهر الطائفية والتزوير الإعلامي، وتقديم مساحة حقيقية للحوار بين المواطنين من مختلف الانتماءات.


الصمت الذي يخلق وطنًا

الحرية ليست أن نصرخ في وجه الجرس، بل أن نصمت بعده.
أن نمتلك تلك الثواني القليلة بين الصوت والفعل، ونملأها بالوعي لا بالانفعال.
في ذلك الفراغ القصير، يولد الإنسان الحر، ويولد الوطن الجديد.

من يملك لحظة الصمت، يملك القرار.
ومن يملك القرار، يملك الوطن.

حين نصمت بعد الجرس، يبدأ الوطن بالكلام.

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top