بقلم محمود القيسي – ديمقراطيا نيوز

“كان يسكن النوافذ والأبواب والجدران
كان يعشق الأرض ويحيا في ترابها
كان وجه الماء
كان لونه حنطي مثل خبزه اليومي
كان يمسح الحزن والدمع عن جبين الأرض
كان حكايات الفقراء
كان الفقراء حكايته
كان جريدتنا اليومية..”

كانت رؤية الرئيس رفيق الحريري إلى الأساس المنهجي لماهية الوطنية الديموقراطية ، أو الدولة الوطنية الديموقراطية، قوامه: “إن المجتمع المدني ليس إنعكاس الدولة، بل الدولة هي تعبير المجتمع المدني” الدولة الوطنية الديمقراطية التي ستغدو عنده الدولة السياسية، الليبرالية، التي ينتجها المجتمع المدني على أنها شكل وجوده السياسي، والتي تصير دولة (ديمقراطية ) يتحدى فيها الشكل السياسي والمضمون الإجتماعي.

فالدولة الوطنية الديمقراطية هي جميع أفرادها، بلا تمييز وعليها إن تقوم بوظائفها التي هي وظائف إجتماعية، لا تتعلق بالصفات الفردية لكل فرد، بل بصفته الإجتماعية على نحو يرضي مواطنيها، لانها تحديد ذاتي للشعب.

كان يؤمن إن قيام دولة وطنية ديمقراطية حديثة مشروط بتفكك البنى و العلاقات التقليدية، ما قبل المدنية و الوطنية، والحيلولة دون أن ينتج في أي من هذه العلاقات التقليدية نتائج سياسية وهي علاقات وهمية في جميع الأحوال، تخفي العلاقات المادية و الأخلاقية الواقعية.

السبيل إلى تفكيك هذه البنى و العلاقات هو إدراج الأفراد في بُنى و علاقات حديثة، مهنية ونقابية و حزبية و تنظيمات مدنية مختلفة. ذات مضامين إجتماعية / إقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية، يعينها نمو الإنتاج الإجتماعي بجميع منطوياته المادية و الروحية، من دون أن يتخلوا عن شروطهم المسبقة، الاثنية، والدينية أو المذهبية وتحديداتهم الذاتية إلا بارادتهم.

كما ان نموّ الإنتاج الإجتماعي، المادي و الروحي هو كلمة السر التي تفتح مغاليق الدولة الوطنية الديمقراطية. حيث ان الأهداف التي يصعب تحقيقها، ينتج عنها مكاسب دائمة. والضعفاء فقط كما يقول الرئيس الحريري هم من يسعون لتحقيق الأهداف السهلة ودائماً ما يخسرون في النهاية.

كان يعتقد “رحمه الله” أيضاً إن الفرق بين الثورات الإجتماعية العامة و التي تولد لأسباب إجتماعية تاريخية متعددة الجوانب والأسباب و بين النمو الإجتماعي الحقيقي للتغيير و العبور نحو الدولة الوطنية، هذا العبور بالفعل الإجتماعي و الحاجة له يعني التخلي عن البنى الإجتماعية القديمة، والموروثة بشكلها الهش والفوضوي وعلاقاتها التي بكل أسف تعيد إنتاج نفسها و تتجدد في تخلفها واستبدادها، وكما يقول مكيافيلي: “إذا تركت المشاكل تتفاقم، فسوف يأتي الحل بعد فوات الأوان”.

إن النمو الإجتماعي تأسيس لعلاقات إجتماعية يأخذ بالحسبان الحاجه لهذا التغيير التدريجي والإرتفاع إلى حاجات المجتمع الملحة والمطلوبة.

كان الرئيس الشهيد رفيق الحريرى صاحب نواة مشروع وطني يبدأ من لبنان آخذاً في الإعتبار عمقه العربي و عمقه التاريخي و الظروف المحيطة رغم صعوبتها، هذا المشروع الذي دفع رفيق الحريري حياته ثمناً له، هذه التضحية / الشهادة – الإستشهاد و التي كان رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري و مؤسس إلى حدّ ما الجمهورية اللبنانيه “الجديدة” على الأقل بالقياس إلى الكيان السابق لبنانياً بل حتى و بكل أمانة عربياً، كانت هي المقدمة الطبيعية لبداية نمو إجتماعي يؤسس لفعل التغيير التدريجي والحاجة التاريخيه من أجل مجتمع يأخذ في الإعتبار مدى حاجته للتغيير والتطور المستمر…

وما إستشهاده إلا نتيجة لتراكمات عديدة – متعددة بل تراكمية في كمّها ونوعها، كما في تقاطعاتها والتي سوف آتي على تناولها و بشكل تحليلي مقرون بدلائل كثيرة حين تسمح الظروف بذلك.
إبتداءًا من مؤتمر “لوزان” ونجاحه في مؤتمر “الطائف” ومشاركته الكبيرة والفاعلة في إصدار وثيقتها التوافقية “الوفاق الوطني” برعاية المملكة العربية السعودية، وقيادتها الحكيمة في وقف الحرب الأهلية في لبنان وإعادة إعماره وإرساء سلمه الأهلي وإعادة وضعه على الخارطة الدولية والعمل الدؤوب على تطوير النظام اللبناني و تحديث قوانينه بما يتماشى مع متطلبات العصر الحديث.

كما عمل جاهداً دولة الشهيد رفيق الحريرى بكل أخلاص وتفاني على نهضة المجتمع اللبناني في مجالات عديدة و على رأسها تأهيل وتعليم أكبر عدد ممكن من الطلاب والطالبات اللبنانيين من جميع المناطق والطوائف اللبنانية دون تمييز أو إستثناءات… في جميع المجالات والتخصصات العلمية.. وفي أهم الجامعات الوطنية.. والعالمية.. حيث “إن رجل السياسة يتطلع للإنتخابات القادمة، ورجل الدولة يتطلع للأجيال القادمة” كما يقول توماس جيفرسون.

كذلك محاولاته المبنية على قناعات وطنية صلبة وراسخة في تحرير لبنان من كل الجيوش الأجنبية، من أجل قيامة لبنان وقيامة دولته الوطنية الديمقراطية.

لقد جسدت حياة رفيق الحريري كل أشكال القوة والعزم والصبر والثبات والصمود في وجه المِحن والتحديات، فما إن يؤسس مشروعاً لإحياء قيم المجتمع ويغلقه أعداء النمو المجتمعي ظلمًا وعدوانا حتى يؤسس مشروعاً آخر، وما إن يُحارب من قوى الاستبداد والظلام في اتجاه حتى ينشط ويجتهد في اتجاه آخر دون كلل أو ملل.. وهكذا في متوالية رائعة من الإصرار العجيب الذي تفاعل بين ضلوع شخصية فريدة لا تأبه بالباطل وانتفاخ كيانه الهش ومؤسساته الباغية، ولا ترتعد من سطوة قرارته الجائرة وسياساته الرعناء.

لا تقتصر حياة الحريري الأب على المواقف الصلبة والقدرات الفكرية والسياسية الباهرة، بل إن رجل الفكر والسياسة والاقتصاد أمتلك مرونة دبلوماسية مدهشة صقلتها المحن والخطوب والتجارب والخبرات، ليشكّل شخصية بديعة ذات ملامح ومكوّنات متكاملة تُوّجت بكاريزما ذاتية وحضور لافت لا يختلف في جدارتها وأهليتها أحد.

لذا، لم يكن مُستغرباً أن تفتح جبهات الحرب على الرجل نيرانها من كل حدب وصوب، وأن يكون قرار إقصائه حاضراً على الدوام في كل المراحل والمحطات.

من الصعب الكتابة عن قامة وطنية كبرى كقامة رفيق الحريري الذي أفنى حياته حتى لحظة الاستشهاد في سبيل نصرة القضايا العربية وإعلاء شأن شعبه وأمته، وأعطى القضية الفلسطينية الكثير الكثير…

حين نتحدث عن علاقة رفيق الحريري بالقضية الفلسطينية نتحدث عن علاقة عضوية عقدية مصيرية لا انفصام لها، وحالة من حالات التجذر العميق في الوعي الفكري والثقافي والسياسي الذي يتأسس على رؤية شمولية ذات آفاق رحبة تدرك أبعاد الصراع وحقيقة الاحتلال… كان يسكن في النوافذ والأبواب والجدران.. كان يعشق الأرض ويحيا في ترابها… كان وجه الارض وجه الماء.. كان لونه حنطي مثل خبزه اليومي.. كان الليل بالنسبة إليه همس دافيء ورغبةً.. كان يدا تنسّل في العتمة تمسح الحزن عن جبين الأرض.. ووجهها… كان حكاية كل الفقراء.. والفقراء كل حكايته…. كان جريدتنا اليومية…!

شارك المقال

WhatsApp
Facebook
Twitter
Email
Telegram
Print

مواضيع ذات صلة:

Scroll to Top