
بقلم جوزاف وهبة
تأخّر سيّد بكركي البطريرك الراعي في السير على “درب الصليب” اللبناني، حيث أعلن في عظة الأحد الماضي ما يشبه القطيعة مع توجّهات المكوّن الشيعي والثنائي الشيعي، ممثّلاً ب”حزب الله” الذي اختطف الدولة بما فيها من سيادة وقرار سلم وحرب للإنخراط في “وحدة الساحات” التي هيّأت لها إيران طويلاً، تمهيداً لعملية “طوفان الأقصى” التي خطّطت لها بتقنيّة عالية، وخاطت سجّادتها عقدة عقدة مع حركة “حماس” إلى أن حانت ساعة الصفر في السابع من أوكتوبر 2023، التاريخ الذي غيّر وجه المنطقة، وربّما يغيّر وجه العالم!.
ليس جديداً أن يعلن بطريرك الموارنة ما أعلنه في قدّاس الأحد الماضي. فالبلد يعيش على خطّ النار، أو بشكل أدقّ، على فوهة بركان إذا ما انفجر لن يبقى فيه حجر على حجر. وهذه غزّة نموذج للموت والدمار، نموذج لما يمكن أن يصيب هذا البلد الصغير، دون أن تكون خاتمة أحزانه “شكراً قطر” كما في العام 2006، فالظروف العربية والخليجية والدولية قد تبدّلت أيّ تبديل، ومن يدفع الثمن يبقى وحيداً ويندم، ولات ساعة ندامة!.
من هذه النهايات المفجعة جاءت صرخة الراعي الذي قال بالفم الملآن “ليس تخلّياً عن القضايا الوطنية ولا العربية، بل إنطلاقاً من صدقي مع ذاتي، أرفض أن أكون وأفراد أسرتي رهائن ودروعاً بشرية وكبش محرقة لسياسات لبنانية فاشلة، ولثقافة الموت التي لم تجرّ على بلادنا سوى الإنتصارات الوهمية والهزائم المخزية..”.
الراعي وضع الأصبع في قلب الجرح النازف قبل أن يموت الجسد. ضربة إستباقية، لا بدّ منها، ولو أثارت لدى الجيش الإلكتروني لقوى الممانعة زوبعة من ردّات الفعل العصبية، والتي وصلت الى حدّ التخوين، ونشر صور مركّبة له بزيّ صهيوني.
وما هذا الجنون المعاكس إلّا لأنّ كلام البطريرك قد أصاب مقتلاً في خطاب الأمين العام حسن نصرالله، كما أصاب مقتلاً في الثقافة التي اختارها الحزب (ومن خلفه بيئته الحاضنة) ويريد لكلّ لبنان أن يسقط في أتونها: ثقافة الموت..
ماذا يقدّم الحزب لأبناء طائفته أوّلاً، ولكلّ اللبنانيين ثانياً وأخيراً، غير صور الشهداء من الشباب “على طريق القدس”، وهو يعرف كلّ المعرفة أنّ طريق القدس غير سالكة، ولا تقدّم أو تؤخّر فيها قذيفة من الجنوب أو صاروخ موجّه، أوحتّى عملية بطولية تنتهي بموت الأبطال. كلّ يوم كوكبة من الشهداء، لن يخفّف من وجع من يفقدونهم بعض الكلمات المنمّقة “نزفّ، وارتقى..وشهيد”.
ثقافة الموت لا نريدها، كما لا نريد إنتصارات وهمية كما هي الحال في قطاع غزّة: أيّ انتصار يمكن أن يخرج من رحم أكثر من مئة ألف شهيد ومفقود وجريح؟.
أيّ انتصار يمكن أن يولد من مدن قد تهدّم أكثر من سبعين في المئة من بيوتها وأبراجها وبناياتها؟.
أيّ انتصار يمكن أن يفرح به من باتوا بالملايين مهجّرين بالكاد يجدون خيمة تقيهم شرّ الصقيع، وبالكاد يجدون لقمة خبز يسدّون بها جوع أطفالهم؟.
“كفى..”، قالها الراعي على خطى بطريرك “14 آذار” و”لبنان أولاً” (وبالأذن من وليد جنبلاط..) مار نصرالله بطرس صفير الذي جعل من إستشهاد الرئيس رفيق الحريري درباً للخلاص من الإحتلال السوري..
عسى أن يكون نداء بكركي جرساً يدقّ النفير كي يستفيق كلّ اللبنانيين، بمن فيهم الطائفة الشيعيّة، فننقذ البلد من ثقافة الموت المجّاني، إنتقالاً إلى ثقافة الحياة..دون أن يلغي ذلك تضامننا الصادق والكبير مع غزّة وأهل غزّة، ومع فلسطين وقضيّة فلسطين!
