بقلم خالد صالح
خلال الحرب العالمية الثانية عانت بريطانيا من شبكة “الطابور الخامس” الألمانية كثيرًا، لذلك عقدت المخابرات البريطانية الـ MI6 العزم على الوصول إلى الوثائق السرية الخاصة بالطابور والموجودة في قصر أحد النبلاء في باريس تحت حراسة مشددة، وذلك لاسقاط “شبكة العملاء” الذين يتعاونون مع الألمان، وعهدت تنفيذ هذه المهمة الدقيقة إلى أحد ضباطها الأكفاء، الذي بدأ على الفور بوضع الخطة لهذه العملية المعقدة .
بعد إنجاز الخطة، ظهرت عقبة استوجب حلها، وهي “الخزنة” التي يتواجد بداخلها كل المستندات المطلوبة، وكانت المهمة تقتضي فتح الخزنة وتصوير لوائح أسماء “الطابور الخامس” واعادتها إلى مكانها الطبيعي من دون ترك أي أدلة على ذلك، فقصد الضابط مركز الـ “سكوتلاند يارد” يطلب أحد الضباط الخبراء والمهرة في فتح الخزنات، وأخبر المدير بطبيعة العملية، فكانت الصدمة حين قال له: “أنت لست بحاجة إلى خبير فتح خزنات، أنت بحاجة إلى “لص” ..
“لص” متخصص في فتح الخزائن، لأن اللص سيكون لديه إحساس كبير جدًا بالحذر اكتسبه من خبرته الطويلة في مجال السرقة وهذا ما سيجعله يقوم بالمهمة على أكمل وجه، من دون أن يشعر به أحد سواء داخل المنزل أو من الفريق الأمني المكلف حمايته، وفعلًا تم العثور على هذا اللص وقبل بالمهمة ونجح فيها نجاحًا باهرًا وسقطت كل شبكة “الطابور الخامس” والتي كانت سببًا فيما بعد بخسارة ألمانيا للحرب.
البحث عن “اللص” ؟
أدّى اغتيال العدو الإسرائيلي للقيادي العسكري البارز في حزب الله “إبراهيم عقيل” ومجموعة كبيرة من قيادات الصفّ الأول بغارة استهدفت الضاحية الجنوبية، وقبل هذا ما حدث من تفجيرات لأجهزة “البيجر” و “اللاسلكي”، واغتيال “فؤاد شكر”، إلى فتح الباب أمام تساؤلات حقيقية بشأن سبب الانكشاف الاستخباراتي العميق الذي يعيشه الحزب أمام توالي الاستهدافات الإسرائيلية الإجرامية بشكل لافت منذ حرب غزة المستمرة منذ نحو حوالى السنة، وأعاد تسليط الضوء نحو مسألة العملاء .
يعتقد البعض أن “التفوّق التكنولوجي” لدى العدو يساعده ويُمهد له الطريق نحو الوصول إلى أهدافه، لكن التكنولوجيا بالرغم من تقدّمها، يبقى “الانسان” هو المحرك الأهم لها، ومسألة العملاء ليست وليدة اليوم فهذا صراع قديم ليس في واقعنا فحسب بل على مستوى العالم بأسره، لكنّ هناك أسئلة كبيرة لانزال نحاول البحث عن إجابات واضحة لها، وأهمّها : إلى أي مدى نجح العدو الاسرائيلي في تشكيل “طابوره الخامس” بيننا ؟، وإلى أي مدى بلغ في “بنك معلوماته” أو “قائمة أهدافه” ؟، وهل بوسعنا الوصول إلى “اللص” الذي يتسبب في سقوط شبكة العملاء .
البلد “المكشوف” أمنيًا بالرغم من الجهود الجبارة التي تبذلها القوى الأمنية وفي مقدمها مخابرات الجيش وشعبة المعلومات لمكافحة ظاهرة العملاء، بدأت هذه الظاهرة تقض مضاجع الجميع، وتحوّلت إلى “هاجس” يثير الريبة في كل ما هو حولنا، وتقتضي تضافر الجهود بين الأجهزة المعنية وكل شرائح المجتمع، فـ “العميل” الخائن لوطنه ومجتمعه هو رخيص جدًا، وقد أوضحها “نابليون بونابرت” حينما قال : “أنه قد يكره عدوه ولكنه لا يحتقره مطلقًا،، بل يحتقر “الخائن” الذي يتسلل من صفوف ذلك العدو ليقدم له خدمة مدفوعة الأجر .
صفة “عارها” أبدي
منذ العام2008 بدأت شبكات عملاء العدو بالتهاوي، وشكلّت شعبة المعلومات بقيادة اللواء الشهيد وسام الحسن الطوق الذي التف حول رقابهم، وخلال أقل من أربع سنوات سقطت في يد القوى الأمنية ما يزيد عن سبعٍ وثلاثين شبكة، ومع اندلاع الثورة السورية في الـ 2011 ولجوء مئات الآلاف إلى لبنان، نشطت الجمعيات الأممية الـ NGOS بشكل لافت للإهتمام بأوضاعهم وشؤونهم، وانتشرت هذه الجمعيات على مساحة الوطن من أقصاه إلى أقصاه، وهو أمرٌ مثير للريبة كثيرًا، لأن هناك الكثير منهم من غير الممكن تحديد طبيعة عملهم، ومع انطلاقة ثورة 17 تشرين تزايد نشاط هذه الجمعيات نحو اللبنانيين أيضًا بسبب الضائقة المالية والاقتصادية التي دخل بها لبنان، وصارت الأرض ممهدة أمام استقطاب البعض ممن يريدون الكسب السريع، بغض النظر عن الوسيلة لذلك حتى ولو كانت على حساب وطنه وأهله وناسه .
لاشك أن انخراط حزب الله في الأزمة السورية منذ اندلاعها جعل من هذا الأمر فرصة سانحة للبعض من ضعاف النفوس لـ “رد الصاع صاعين” حتى وإن كان من باب “الخيانة والعمالة”، فالعميل هو الدنيء الذي يُقدّم معلومات ومعطيات حساسة للعدو لتنفيذ أجندتها ومكاسبها في وطنه، هذا العميل أولى الصفعات التي يتلقاها تكون من مشغليه لأنه يكون “حقيرًا” لديهم، ويمعنون في إذلاله وتطويعه رغم ما يضعون بين يديه من تقنيات وإمكانات هائلة لتحقيق أهدافهم، وفوق ذلك كله مهما قدّم من خدمات فهو شخص غير موثوق به حتى من الجهة التي يعمل لتحقيق مآربها .
لقد أثارت أحداث الأسبوع الماضي الكثير من التساؤلات حول مدى تغلغل “العملاء” بيننا ومدى الدور الذي يلعبونه في تزويد العدو بالمعلومات ذات الصلة بإجرامه المتمادي بحق اللبنانيين، إنها لعبة كلمات متقاطعة، لا يمكن فكّ رموزها إلا إذا وضعناها في سياقات صراعات القوى على الساحة، وهي صراعات تأخذ حجمًا كبيرًا حين تكون الظروف العسكرية مواتية لهذا الفعل، ووجب علينا التنبه لتصرفاتنا خصوصًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت مرتعًا لهكذا أنشطة، وبابًا للإيقاع بشبابنا في براثن العمالة، التي سيلاحقهم عارها إلى الأبد ..