كتب أسعد بشارة في “نداء الوطن”
بدأ الطوفان صباح 7 أيار 2023 في غزة، ووصل في اليوم الثاني إلى لبنان، ليجرف قرار السلم والحرب في حكومة تصريف أعمال حولتها الأزمة إلى حكومة دائمة، يترأسها محترف في تدوير الزوايا، تحوّل بفعل الضرورة إلى محترف تدوير أزمات من النوع المستعصي.
تدوير الأزمات يفترض بداعي الحكمة أن تحيد من وجه الطوفان، وهذا ما فعله الرئيس نجيب ميقاتي، الذي ترك السيل يسيل في ذروة تدفقه، وكان كل برهة يطل برأسه من مخبأ الشرعية في السراي، ليتفقد حجم تدفق المياه، فإذا وجد الشلال هادراً، يعود رأساً إلى المكان الآمن متحيناً فرصة جديدة، لقول ما يجب أن يقول وليفعل ما يجب أن يفعل.
شاء قدر حكومة الضرورة، أن تواكب حرب الإسناد، وهي تمشي خطوة وتتراجع خطوات. اعتقد محترف تدوير الأزمات أن فرصاً تلوح للانتفاض على الواقع الأليم. مرة عندما صرخ في مقابلة تلفزيونية في مكاشفة نادرة بأن قرار الحرب ليس بيد الحكومة. كانت صرخة أمام الناس، ولكن حقيقتها كانت رسالة لمن يصادر قرار الحكومة.
توقف ميقاتي عند هذه الخطوة، لكنه استمر يحيّك الفرص، لخرق جدار حرب الإسناد، فحاول في الإليزيه، واعتقد أنه نجح في فصل ملف لبنان عن غزة، لكن عندما عاد إلى بيروت، أجهضت محاولته في المهد، ورغم ان رئيس المجلس كان يبارك محاولته ولو من دون تبنيها علناً، فكان هو الآخر منتظراً على الرصيف، وصول جثة الاتفاق، الذي لم يأت إلا بعد حرب مدمرة، كان ميقاتي وبري يتمنيان لو لم تحاصرهما. الأول حوصر في السراي مع تسجيل بعض الخروقات، والثاني، كان مضطراً طوال الوقت لأن يبتسم، على أنقاض إمبراطورية بناها في الجنوب، لم يخف في أحد لقاءاته بوحه بأنها تهدمت في أشهر، على وقع حرب الإسناد.
سيكتب التاريخ أن الحرب التي خاضها “حزب الله” من خارج الحكومة وبيانها الوزاري الذي أعطاه شرعية الدفاع عن لبنان، حولت المؤسسات إلى هياكل لا تقترب من عظمة بعلبك. سيكتب التاريخ أن “حزب الله” استنزف كل شبكات الأمان التي توفرت له، وأولاها السراي الكبير، إلى حد استهلاك آخر ما تبقى من دور وموقع.
لكن على هامش هذا الاستنزاف هناك رواية في الظل، لم تُقل بعد. سردية مختلفة من زاوية مغايرة لما يُرى عن بعد، وما يتم تحليله عن بعد.
لقد تولّى الرئيس بري التفاوض، لكن هل كل ذلك يمكن أن يوضع في خانة السلبية.
لا. إيجابيات واقعية أصابت من اعتمد النأي بالنفس. الأبرز منها تحميل مسؤولية التفاوض لمن فتح الحرب دون استئذان، أي لـ”حزب الله”. إيجابية ثانية تمثلت بالتفرغ لإدارة الأزمة الإنسانية، وحمايتها من أي تشويش قد ينتج عن تحمل رئيس الحكومة السني مسؤولية التفاوض، مع ما قد ينتج عنه من توتر سني شيعي في زمن الحرب وفي حقبة امتلاء المدن المحيّدة من القصف باختلاط مذهبي يشبه برميل البارود.
إيجابية ثالثة، تتمثل في حتمية مرور الاتفاق بعد نيله الختم الشيعي، في مجلس الوزراء، فبذلك تتحدد المسؤوليات بوضوح، وتسقط لغة التخوين، وتنتفي الحاجة إلى أشعار الهجاء على المنابر.
ضبط السراي النزوع إلى تحميل الدولة أكلافاً مالية باهظة، كثمن للتهجير. صمد السراي أمام الكثير من محاولات التفلّت من الحد الأدنى من عمل المؤسسات.
أخفق السراي في لعب الدور المطلوب منه، لكنه احتمى بحكمة وصفها الخصوم بالجبن والتخاذل.
الحكم في تلك المرحلة سيكون للتاريخ، لكن ساكن السراي وبفعل غريزة البقاء يعدّ لمرحلة جديدة، على طريقة “عش ليومك في السراي كأنك تعيش ابداً، وعش لآخرتك متجنباً حقول الألغام، لأنه لو دامت لغيرك لما آلت إليك”.
عاد ساكن السراي من المملكة العربية السعودية، وعلى العكس من المتوقع، كان مرتاحاً جداً لما سمعه. هو يحضّر اليوم لمرحلة انتقالية، يريد أن يكون في صلبها.
الأيام ستحكم على استراتيجية غريزة البقاء هذه، لا سيما في مرحلة التحضير لتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، وانتخاب الرئيس الجديد، واختيار ساكن السراي.