كتب جوزيف حبيب في “نداء الوطن”:
التحوّلات الجيوسياسية الجذرية التي تطرأ على الشرق الأوسط منذ هجوم 7 أكتوبر 2023، الذي انقلب “بلاؤه” على أصحابه الأقربين والأبعدين، تعيد رسم خارطة النفوذ للقوى الإقليمية والدولية في المنطقة. ولعلّ أبرز الرابحين الدوليين حتى اللحظة، هي الولايات المتحدة التي استحالت أكثر قوّة وتأثيراً من العقد السابق. ولسخرية القدر، بُترَ “الهلال الشيعي” بقيادة نظام الملالي في إيران الذي لطالما توعّد بـ “إخراج” الأميركي من المنطقة، وصارت الأذرع الإيرانية إمّا مسحوقة وإمّا معطوبة وإمّا محدودة الفعالية، ما وضع “إمبراطورية” “فيلق القدس” التي هندسها قاسم سليماني ودعّمها، على شفير الانهيار الكامل والخروج من “المعادلة الإقليمية”.
المقارنة بين القوّتين الأميركية والإيرانية تجوز منهجيّاً، بيد أن الهوّة بينهما سحيقة للغاية، فالأولى تصول وتجول على المسرح العالمي، أمّا الثانية فكانت حتى الأمس القريب تثير قلق أعدائها وخصومها لقدرتها على التخريب والأذية، الأمر الذي عمدت على استثماره لفرض شروطها، لكن مقدرتها الحالية على “بث الرعب” تراجعت بشكل دراماتيكي وسريع، وسطوتها ضعفت إلى حدّ كبير. هذا الخوْر المستجدّ الذي ألمّ بالجمهورية الإسلامية والناتج عن “الهزيمة الاستراتيجية” المدوّية التي مُنيت بها طهران في المنطقة، سينعكس تلقائيّاً، عاجلاً أم آجلاً، على الوضع الداخلي في إيران، حيث يخشى نظام الملالي من توافر وتكامل المعطيات والعوامل اللازمة لاطاحة حكم “الثورة الإسلامية”.
تداعيات سقوط “طاغية الشام” ما زالت تتكشف تباعاً، إلّا أنه من نافل القول إن انهيار “سوريا الأسد” كلّف إيران خسارة شريانها الحيوي الذي يربط طهران ببيروت، وتالياً عُزل “حزب الله” في أحلك أيامه. ليس بالأمر العابر إطلاقاً فقدان طهران لـ “القطعة السورية” من “العقد الولائي”، فهذا التطوّر المفصلي سيُغيّر وجه سوريا والمنطقة، فيما حرصت إسرائيل على تدمير القواعد والأصول العسكرية الاستراتيجية لسوريا لتصبح دولة منكوبة بلا أنياب، بصرف النظر عن وضعيّتها المستقبلية في أحلاف الشرق الأوسط ومحاوره.
وفي مقابل الانسحاب الإيراني المفاجئ والمذلّ من سوريا، تبدي واشنطن تصميمها على إبقاء قواتها في “بلاد الشام”، حيث كانت لافتة زيارة قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال إريك كوريلا سوريا الثلثاء ولقاؤه القوات الأميركية و”قوات سوريا الديمقراطية”، لتأكيد مصالح “العم سام” وتثبيت حضوره وبحث جهود منع تنظيم “الدولة الإسلامية” من استغلال أي فراغ أمني على الأرض. ومهما سيكون قرار ترامب حول الوجود العسكري الأميركي في سوريا بعد توليته رئيساً للولايات المتحدة، فإن الظروف الحالية ستوفر له “أوراق ضغط” إضافية على طاولة المفاوضات مع إيران وغيرها.
هروب الأسد من دمشق، يُعرّي حجم جبروت “الدب الروسي” الذي يتقلّص مع الوقت بحكم “الذوبان” التدريجي لمخالبه في “مستنقع الأسيد” الأوكراني، خصوصاً أن موسكو مُهدّدة بخسارة إمكانية وصولها إلى المياه الدافئة في شرق المتوسط في حال رفضت القيادة السورية الجديدة الوجود الروسي في قاعدتي طرطوس البحرية وحميميم الجوّية، الضروريّتين للحفاظ على الحضور الروسي المؤثر في الشرق الأوسط وأفريقيا. كما يُظهر تداعي النظام السوري، مدى محدودية القوّة الصينية في الساحات البعيدة نسبيّاً عن مداها الحيوي المباشر قرب حدودها البرية وقبالة ساحلها.
وبذلك، يكون كلّ التنظير عن التراجع الأميركي في الشرق الأوسط على حساب تعزيز الدورَين الروسي والصيني، كلام يُحاكي التمنيات لا يُمكن صرفه في سوق موازين القوى الفعلي. ما زالت واشنطن الأكثر نفوذاً في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني ودول الجوار والخليج العربي، من دون أي مُنازع جدّي واضح لها، إنما تتنافس مع حلفاء وخصوم يتمتعون بهوامش قوّة متفاوتة السطوة، باختلاف الدولة المُستهدفة والملف المطروح ومدى اهتمام واشنطن بالقضية ذات الصلة.
غدت إيران، كما ذكرت في مقال بهذا العنوان الأسبوع الماضي، “رجل الشرق الأوسط المريض”. وهذا المريض ليس في طور التعافي، بل هو في “العناية المركّزة”، يفقد “بيادقه” تباعاً في كباشه مع أعدائه، بينما تؤدّي أميركا دور “ضابط الايقاع” أو الوسيط في غالبية الملفات الساخنة، أبرزها حرب غزة، حيث يضغط ترامب بتهديده بالويل والثبور للتوصّل إلى وقف لإطلاق النار وتحرير الرهائن قبل تسلّمه مفاتيح البيت الأبيض، ما يُمهّد له الطريق لكي تضع الحرب أوزارها في عهده.
عيْن ترامب شاخصة نحو توسيع “اتفاقات أبراهام” إلى أقصى نطاق مُمكن، لتشمل دولاً ما كان أحد يتصوّر للحظة أن تطبّع علاقاتها مع إسرائيل. إيران ستحاول إبرام اتفاق مع الإدارة الأميركية الجديدة يقيها شرّ العقوبات القاسية و”الضغوط القصوى” لـ “تنفيس” الوضع الداخلي، الذي لن يرحم قادة النظام من “غضبه الثوري” هذه المرّة، إذا ما تفجّر من جديد، في وقت يتعاظم فيه دور واشنطن في الشرق الأوسط ويتعمّق، ولا يبدو في الأفق ما يُشير إلى وجود أي “قوّة مُمانعة” تستطيع “إخراج” أميركا من المنطقة، فكيف إذا أمست “راعية” الشعار “أوهن من بيت العنكبوت”؟