كتب عيسى يحيى في “نداء الوطن”:
تخرجُ بعض العادات والتقاليد عن نصّ العشائر والعائلات وما هو سائدٌ منذ القدم، وتجرُّ معها الكثير من المشاكل والأحداث التي يدفع ثمنها الآباء والأبناء، لتصل أحياناً إلى سيلان حمام دمٍ لا يتوقّف بسبب القانون العرفي الذي ترتبط فيه العديد من القضايا حتى أصبح الفيصل والمرجع.
تدقّ ظاهرة الأخذ بالثأر ناقوس الخطر في المجتمع اللبناني، ولا سيما البقاعي، حيث عادت لتنشط بقوّة خلال السنوات الأخيرة بعد تراجعها لفترة، وتبرز كإحدى الظواهر والسمات التي تلازم الأعراف والتقاليد في المجتمعات العشائرية، التي تلجأ إليها لتحصيل حقوقها، وفرض قوّتها وسطوتها، وإبقاء صيتها ذائعاً بين العشائر. وإن كان السلاح زينة الرجال وفق المفهوم العشائري، فإنّ الأخذ بالثأر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقوّة، وعرفٌ يسري على الجميع، ومن لا يأخذ بثأره لا يحسب له حساب في مجتمع العشائر، حتى لو كلّف ذلك موت العديد من الأشخاص، ولئلّا يقال إنّ العشيرة لا تستطيع أن تدافع عن نفسها. على مرّ السنوات، لم تخلُ منطقة من جريمة قتل كان عنوانها «أخذ الثأر» لأخ أو قريب، بعض تلك الحالات وصلت حدود قتل أخت، وحالات أخرى كانت ثأراً لمقتل أخ أو ابن قُتِلَ قاتله على قبره، وغيرها من الأحداث التي تدخل إلى البيت الواحد، حتى أصبح الأمر عادياً يمرّ مرور الكرام، حيث استسلمت له بعض البلدات والعائلات، وخسرت زينة شبابها، وتحوّل شباب بعضها الآخر إلى مطلوبٍ للدولة ولذوي المقتول معاً، ومع تكرار القتل والقتل المضاد، تحوّلت بعض العائلات إلى مشاريع ثأرية في أيّ لحظة، يذهب فيها «الصالح بالطالح»، ويقضي آخرون لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا يمرّون على الطريق حين وقوع الحادثة.
وقالت مصادر عشائرية لـ»نداء الوطن» «إن هناك مفهوماً خاطئاً للأخذ بالثأر، وكأنه عمل غير مشرّف يندى له الجبين، لكن على العكس، فهو في منطقنا عمل بطوليّ يرفع الرأس، فابن العشيرة لا ينام على ضيم، ونستمدّ عاداتنا وقيمنا منذ تكوّنت العشائر وقبل قيام مفهوم الدولة، فالمثل القائل «البدوي أخذ ثأره بعد أربعين عاماً، وقال… استعجلت»، يحمل في طياته ركيزتين أساسيتين ينطلق منهما مفهوم الأخذ بالثأر: الأولى، هي الأخذ بالثأر من القاتل مهما طال الزمن، والثانية، هي المدّة التي استغرقها الثأر، وهي أربعون عاماً لقتل القاتل، وهنا التأكيد أنّ مفهوم الأخذ بالثأر يكون من القاتل حصراً لا شقيقه أو قريبه».
غياب السلطة
وأضافت المصادر أنّ «اختلافاً في تفسير المفهوم بدأ يظهر خلال الأعوام الأخيرة، اختلط فيه الحابل بالنابل، وفسّرت عشائر عديدة الثأر على طريقتها، حتى وصلت الأمور إلى أنهار دمٍ تسيل بين العائلات بسبب القتل من هنا وهناك، لكن وفق عاداتنا وتقاليدنا، فإن الثأر يكون من القاتل فقط، ولمن يرفض ظاهرة الثأر، نقول: أترضى أن يقتل أحدٌ أخاك من دون أن تقتله؟ كيف يمكن لأحدٍ أن ينام وقاتل أخيه حرٌّ طليق، ولم تقم الدولة بما يتوجّب عليها».
وختمت أنّ «غياب سلطة الدولة وتنفيذ حكم الإعدام بحق القاتل العمد والقصاص الشرعي، أجازت لذوي المجني عليه أخذ حقّهم أو التنازل عنه، والصفح يكون عندما يقوم ذوو القاتل بالحضور إلى ذوي القتيل مع القاتل ويضعونه أمامهم ليختاروا ما يشاؤون، سواء أخذ حقهم أم الصفح والعفو، أم أخذ «ديّة»، وتلك هي الأسس الصحيحة في التعامل بين العشائر، أما من قتل وهرب، فلا مفرّ من إنزال العقوبة بحقّه، وهي القتل».
وإن كان الثأر في ماهيته حالة غير قانونيّة أوجدتها عادات وتقاليد قبليّة، ومن شأنه أن يعطّل أحكام قانون العقوبات الّتي تحدّد شرعية الجرائم والجزاء، وأن يؤدي إلى استبدال المشروعية بمنطق القوة، ويهدم الاستقرار في المجتمع، فقد أصبح اليوم جزءاً من تركيبة مجتمع بأكمله، يرفض الجميع أن يتخلى عنه.
مفتي بعلبك
في هذا الإطار، أكد مفتي بعلبك الهرمل الشيخ بكر الرفاعي لـ»نداء الوطن» وهو أحد أعمدة الإصلاح في بعلبك، وسبق له أن أتمّ العديد من المصالحات التي كان الثأر عنوانها، أنّ «الوضع في بعلبك الهرمل تقدّم بشكل جيد بعد معاناة التفلّت الأمني وإطلاق النار بشكل عشوائي والحوادث الأمنية المتكرّرة، والوضع اليوم هو أفضل ممّا كان سابقاً بسبب متابعة الجيش ومداهماته، والتشدّد في الغرامات المالية. أما العادات المتعلقة بالثأر، فنظرة المجتمع والعشائر للثأر تقول إنّه إذا وقعت جريمة قتل، ولم يضغط أهل القاتل عليه ولم يسلّموه إلى القوى الأمنية أو لم يسلّم نفسه وبقي حراً طليقاً، تقضي العادات بتكليف أحد الأشخاص من عائلة المغدور بمتابعة القاتل حتى يستطيع الوصول إليه، ومن شرف العشائر وأصولها ألا يقتله غيلةً ولا غدراً، بل يرمي له مسدساً كي يستطيع الدفاع عن نفسه، وبعد ذلك يأخذ حقّه، وتلك فكرة ومبدأ الأخذ بالثأر، وهي سليمة في حال تخلّفت الدولة عن واجباتها، وتحصر المسألة بالقاتل فقط، وهي عادات لا نستطيع أن نقول عنها إنها مذمومة، لكن المحافظة عليها على هذا النحو في حال تخلت الدولة عن واجباتها تُشكّل ضمانةً للمجتمع وتمنع أي إنسان من القتل».
وأعرب عن أسفه «بسبب التفلّت الأخلاقي وعدم وجود أي رادع أخلاقي وقيمي وديني وإنساني، بعض الناس اليوم وتحت عنوان أنهم يريدون الثأر، يكافئون القاتل، فبدل أن ينتظروا القاتل لقتله وهي عادة العرب، يقتلون أحد أقاربه، وهي جريمة بكلّ المعايير وتدلّ على جبن الإنسان الذي يأخذ بثأره، وهذا يجب تشديد العقوبة عليه، لأنه يشوّه صورة المجتمع».
وقال الرفاعي: «قديماً كان هناك من يقول كلمته ويحترمها، أمّا اليوم وللأسف فهناك عدة مصالحات جرت وبعد أن تمّت والقضية انتهت، تمّ الإنقلاب على كلّ التفاهمات ووقعنا في حالات غدر بكلّ ما تحمل الكلمة من معاني الجبن والمخادعة، وهي ليست من صفات ابن العشائر».
وختم أنّ «المطلوب اليوم، هو إعادة تنظيم هذه المجتمعات على قاعدة احترام القيم والعادات والتقاليد التي توارثناها، ومطالبة الدولة بالقيام بواجباتها بشكل سريع لإطفاء الفتنة، وتنفيذ عمليات دهم وإلقاء القبض على القاتل، ونحن شهدنا خلال الأشهر الأخيرة تزايد حالات الثأر».
على خطّ الدولة، فقد خسرت عدداً من أفرادها بسبب أعمال ثأرية، إثر قيام الجنود على الحواجز بإطلاق النار على أشخاص أو مطلوبين لم يمتثلوا للوقوف والأوامر، أو تصفية عناصر من قوى الأمن الداخلي، والشواهد على ذلك كثيرة.
يحمّلها البعض المسؤولية عن التقصير في أداء واجباتها، وعدم ملاحقة القاتل ومرتكب الجريمة، الأمر الذي فتح الباب أمام الناس لأخذ حقّهم بأنفسهم.
فالوضع الأمني المتفلّت الذي تسعى لضبطه، تقابله محاولة عدم الاصطدام بالعشائر، ومع غياب الأولى يتعاظم دور الأخيرة، ناهيك بدخول الأحزاب من بوابة المصالحات وقطف ثمارها سياسياً سواء في الإنتخابات أم غيرها.
ومع ارتفاع معدّل الجريمة في لبنان التي يصبّ معظمها في خانة الثأر، تبقى تلك المعضلة الدموية عصيةً على الحلّ، وفي ظل تعدّد أولويات الدولة التي تترك للجان الإصلاح والعشائر الحلّ على الطريقة التقليدية المعروفة، يبقى الثأر إرثاً يلازم العشيرة وذوي المقتول.