بقلم جوزاف وهبه
لم تعد دمشق تبكي. لقد حان أوانها، كما قال ذات مرّة، سمير قصير.صارت لها عينان من أمل وتغيير وثورة.عادت لها محافظاتها ومدنها وأحياؤها، بلا سجون ولا سجناء.الهواء النظيف يلفح وجهها المجعّد.الهواء النظيف يقشع عن سمائها ما علق بها من عذابات 54 سنة من البعث وحكم الأسدين والفرقة الرابعة وأقبية المزّة وفرع فلسطين وصيدنايا وعدره.عادت للناس وجوههم، وللسجناء أسماؤهم بعد أن حوّلهم سجّانوهم إلى أرقام مبعثرة، وأشباه أجسام ناحلة موزّعة على زنزانات تنوح عند طاقاتها “حمامة” الشاعر أبو فراس الحمداني، مردّداً “أيا جارتاه لو تشعرين بحالي”!
الكلّ يذكر حكاية أشهر المعتقلين السياسيين ميشال كيلو، حين استنجد به سجّانه لإسكات طفل بعمر الخمس سنوات، وقد ضاقوا بصراخه المتواصل من داخل زنزانة أمّه السجينة.دخل إليه “كيلو” فارتعبت المرأة ظنّاً أنّه آتٍ لاغتصابها.وحين هدأ روعها، بدأ ملاطفة الطفل بحكاية بسيطة:
-كان يا ما كان هناك عصفور صغير..
-الطفل، بشيء من الدهشة:شو يعني عصفور؟
-يحطّ على غصن شجرة..
-شو يعني شجرة؟
الطفل الذي ولدته أمّه في زنزانتها لم يرَ عصفوراً، ولا يعرف الشجرة، فمن أين له أن يستمتع بحكاية الكاتب الراحل الذي لم يتحمّل ما لم يتوقّع سماعه، فاستأذن مدير السجن وعاد باكياً إلى حبسه الإنفرادي!
آن لدمشق أن تبتسم.آن لها أن تخرج من النفق الحالك الذي طال أكثر من نصف قرن من الزمن.وهذا ما حدث ويحدث:حتّى الأنظمة الديكتاتورية الحليفة نفضت أياديها من “القاتل المتسلسل”، إبناً ظالماً غبيّاً عن أبٍ ظالم ذكيّ، ربّما هو الأسوأ في تاريخ البشريّة.
فالروس الذين لم يحرّكوا طائراتهم المقاتلة إكتفوا باستقبال بشّار الأسد، لحفظ ماء الوجه أمام باقي الحلفاء بأنّهم لا يتخلّون عن أصدقائهم، أو ربّما لبيعه عندما تدعو الحاجة، وهذا هو السبب الأرجح!
إيران قد سارعت إلى النأي بنفسها تحت حجّة عدم تدخّلها في شؤون سوريا الداخلية، مثبتةً أنّ شعار “وحدة الساحات” الذي أطلقه الجنرال قاسم سليماني إنّما هو وحدة ساحات غزّة ولبنان واليمن وسوريا معها فقط حين تتعرّض ساحتها للخطر، وليس بالضرورة أن يكون العكس بالمثل:ثلاث ساحات سقطت، ولم تحرّك جندياً فارسيّاً واحداً!
العراق، حكومةً وحشداً شعبيّاً، إكتفى بصيحات التأييد عبر الحدود المقفلة. ومقتدى الصدر، بعد السيستاني، دعا جهاراً إلى عدم التورّط في شؤون سوريا الخاصّة.
حزب الله، الذي ذاق الأمرّين في الجنوب والضاحية والبقاع دون أن ينجده جيش الأسد، ترك الدولة الممانعة بلا حليف ولا مساندة ولا “وحدة ساحات”.بالكاد كلّ ذراع من أذرع طهران الأربعة (العواصم الأربعة) تكاد “تقلّع شوكها بيديها” كما يقول المثل، وكما تقول الحال التي وصلت إليها هذه الأذرع.فالحزب قد نزف قياداته من الصفّ الأوّل والثاني والثالث. وينزف شهداء باتت نعواتهم بالجملة ودون تفاصيل الأسماء، كما جاء في آخر دعوة للمشاركة في تشييع “كوكبة” من شباب زوطر الشرقية!
آن لعاصمة الأمويين أن تكفكف دمعها، بعد أن طال كلام الشاعر أحمد شوقي “ودمعاً لا يُكفكف يا دمشق..”.. وآن لذلك “الأسد الصغير” أن يبقى وحيداً ويندم. والأجدى به أن يُحاكم (عبرةً للتاريخ وللطغاة)، أو أن يُقتل، كما تشاوشيسكو والقذافي، تكفيراً عن آلاف الضحايا و ملايين المعذّبين والمشرّدين.
آن لدمشق أن تبتسم، ونحن لا بدّ أن نبتسم لها و معها!