بقلم جوزاف وهبه
سقط بشار الأسد.سقط نظام نصف قرن وأكثر من القتل والإرهاب وشتّى أنواع العذاب والتعذيب الممنهجين، من أعلى الهرم في السلطة، إلى أصغر جندي ومُخبر وواشٍ أو كاتب تقارير.سقط الوحش ليس في الشام فقط، بل في بيروت وامتداداته إلى معظم دول الجوار (في السجون يوجد اللبناني والفلسطيني والأردني..وحتّى الأميركي، وُجد واحد ولا يزال الثاني مفقوداً).سقطت مملكة الكابتاغون الأشدّ وحشةً في التاريخ الحديث، والأكثر تشابهاً مع ظلاميّات القرون الوسطى.كلّ ذلك يُفرحنا، ويُفرحنا كثيراً..ولكن ماذا عن اليوم التالي، وماذا عن الحكم الجديدبوجهه الأبرز “أبو أحمد الجولاني”؟
في الشكل، خلع الجولاني عباءة القاعدة والنصرة، ولبس مقولة أنّ التغيير في سوريّا يخصّ حدود سوريّا وحدها، ولا علاقة لذلك بحكم أو كيان أيّ دولة مجاورة، وبالأخصّ لبنان.بمعنى التخلّي عن ما أطلق عليه تنظيما القاعدة وداعش “وحدة الأرض الإسلامية” رفضاً للجغرافيا الحديثة في الدول والحدود القائمة.الجولاني، الذي نشأ على فكر القاعدة، تخلّى علناً وجهاراً عن الأساس الذي بُني عليه هذا الفكر.واستتبع ذلك بالتخلّي عن لقبه “الجولاني” ليعود مواطناً سوريّاً يُدعى “أحمد الشرع”، وليعود إلى بيت أهله في إحدى حارات دمشق العريقة.
في المضمون، المؤشّرات عديدة، وإن كانت المدّة القصيرة من عمر الثورة لا تزال غير كافية للحكم المطلق على مسار ونهايات الأمور:
-الثورة لم تولد من عدم أو نتيجة شرارة سياسية داخليّةمحدّدة.هي خطّة أعدّت لها تركيا (وربّما قطر) بعناية فائقة طويلة الأمد، بانتظار اللحظة السياسية المناسبة، والتي تكوّن أوانها بعد الضربة الموجعة التي وجّهتها إسرائيل إلى الذراع الرئيسية لإيران (حزب الله) حيث خرج منهكاً بعد شهرين من القتال في الجنوب والضاحية والبقاع، وحتّى داخل سوريّا نفسها.”السلطان أردوغان” كان يراقب ويحسب بدقّة مختلف العوامل (وخاصة الوضع الإيراني المهلهل، والوضع الأميركي – الإسرائيلي الجاهز للإنقضاض على خط طهران – بيروت)، إلى أن رأى الفرصة سانحة، وكان ما كان من دخول سريع إلى حلبوحماه وحمص، والسقوط المتتالي لباقي المدن، وصولاً إلى قصر المهاجرين في قلب دمشق.
الجولاني قاد قوافل المسلّحين، بنجاح يُحسب له (لا ثأر ولا تعدّيات ولا سرقات أو حوادث تُذكر، رغم الوجع المديد من النظام وأهله وطائفته..)، ولكنّه بالتأكيد ليس هو الذي أعطى “الضوء الأخضر” بالإجتياح المنظّم، وفق الحاجات الإستراتيجية الأميركية – الإسرائيلية، ووفق التخوّفات الأوروبية من الإنتهاكات المحتملة لحقوق الإنسان والأقلّيات، ووفق عدم التصادم مع “القيصر بوتين” الذي بلع الطعم، وبات يعدّ العدّة للخروج النهائي من سوريا، ليس تحت ضغط الواقع المستجدّ فقط، وإنّما أيضاً طمعاً بملاقاة وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيضوذلك في منتصف الطريق من الحرب الروسية – الأوكرانية الدائرة عبثاً (وعبءً ثقيلاً عليه) منذ 3 سنوات!
-يحرص قائد الثورة أحمد الشرع على طمأنة جميع الأطراف المؤثّرة في الساحة السورية، مدركاً أنّ “النار تحت الرماد” إذا لم يُحسن (بل يُتقن) إيصال الرسائل اللازمة إلى القوى الفاعلة:لم يُصدر أيّ ردّة فعل حيال الضربات الإسرائيلية الواسعة ضدّ البنية العسكرية لسوريا، معتبراً أنّها موجّهة ضدّ النظام البائد، وليس ضدّ الثورة الناشئة.بل أكثر من ذلك أعلن “نهاية الحروب” وأّنّ بلاده غير مستعدّة للدخول في أيّ شكل من أشكال الصراع..حدّد خصمه الأساس في المشروع الإيراني للمنطقة، ما يلبّي رغبات واشنطن، وما يُثلج قلوب عواصم الخليج الأكثر ضرراً من التوسّع الفارسي في ما يسمّى “العواصم الأربعة”، وهو ما عجز عن القيام به الرئيس الهارب بشار الأسد رغم الإحتضان العربي له في السنتين الأخيرتين (عودته إلى الجامعة العربية وفتح السفارات في دمشق..)..أعلن عدم تدخّله في حياة المواطنين الخاصّة، مانعاً المقاتلين من التدخّل في اللباس أو الحريّات الشخصيّة، مؤكّداً على الإنفتاح على جميع المكوّنات السورية، بما فيها “قسد” والسويداء والمسيحيين والعلويين، ومعلناً العفو العام باستثناء الذين فظّعوا بالشعب السوري، تنكيلاً وتعذيباً وقتلاً عشوائيّاً!
بالطبع الصورة ليست “ورديّة” بالكامل.هناك تساؤلات ومخاوف كثيرة ومشروعة:
هل الحكومة المؤقّتة حتّى الأوّل من آذار، والتي عُيّنت على عجل، ستلتزم بذلك؟ هل سيلتزم الحكم الجديد بما يردّده الشرع حول حلّ جميع الميليشيات، وهل يمكن لذلك أن يتمّ بسهولة؟ هل سيسكت فلول النظام القديم على ما جرى، أم يفتحون أبواب التخريب على الثورة الناشئة، مستفيدين من التناقضات الواسعة والعميقة في الكيان السوري؟ كيف يمكن الجمع بين النفوذ التركي المطلق وبين الوجود الكردي (المدعوم أميركيّاً) على الأرض، وفي مواقع السلطة الجديدة متى تكوّنت؟ هل يمكن للتحربة التركية الناجحة في الجمع بين العلمانية والدين أن تتكرّر في النظام السوري الجديد؟
الأسئلة كبيرة ومقلقة، ولكنّ الخوف منها لا ينفع.وهنا يأتي الدور المفترض للنخب السورية المهاجرة في أن تعود وتحتلّ حيّزاً في صناعة مستقبل بلادها..فهل تنجح في هذا الدور، أو بشكل أدقّ هل يسمح لها القادة الجدد (New جولاني) بحرّية الممارسة والتفكير والعمل..أم أنّنا أمام مخاض عسير وطويل..وربّما مؤلم؟