
بقلم خالد صالح
مَنْ منّا لا يذكر ذلك الهتاف في فيلم “السفارة في العمارة” للفنان الكبير “عادل إمام” : “مش ح نساوم مش ح نبيع، مش ح نوافق ع التطبيع”، صحيح أنّها عبارة من فيلم ميلودرامي يتناول قضية رفض الشارع العربي عمومًا والشارع المصري خصوصًا مسألة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي الغاصب.
لم تأت هذه العبارة في سياق الفيلم من فراغ، بل هي تأكيد أن الاتفاقات الموقّعة مع العدو على المستوى الرسمي لا يمكن أن تنسحب على الشارع العربي وبالتالي فإن العداء مع هذا الكيان المجرم سيبقى قائمًا لأن القضية الأساس “فلسطين” لاتزال حيّة في قلوب الناس، وسيتناقله الجميع إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا .
لكن في مصر أو في الأردن ورغم الرفض الشعبي لمفهوم التطبيع كما يشتهيه العدو، كانت وسائل الاعتراض تأخذ منحىً سياسيًا بعيدًا عن لغة المواجهة المباشرة بالحديد والنار، ولم تنشأ حالة “مقاومة” واحتكار “السلاح” في يد طرف واحد كما في لبنان، هذه الحالة التي تحوّلت ما بعد أيار 2000 إلى مادة انقسام عمودية بين اللبنانيين، وقد عرفنا سلسلة من المواجهات سواء مع العدو أو في الداخل جعلت من مسألة السلاح عقدة مستعصية صار من الواجب إيجاد الحلول لها .
إلّا “السلاح”
ما إن وضعت الحرب الإسرائيلية في الـ 2006 أوزارها، خرج علينا النائب علي عمار بمقولته الشهيرة (إذا كنتم تريدون البحث في سلاح حزب الله فليس لديكم سوى أحذية قانا للتفاوض معها)، فبعد الحرب شعر الحزب أنه بات محاصرًا داخليًا سياسيًا وعسكريًا، وهذا الأمر يضرب مفاهيمه الأيديولوجية وتبعيته الإقليمية، فكانت واقعة (7 أيار 2008)، والتي اعتبرها الأمين العام للحزب السيد الشهيد حسن نصرالله آنذاك بـ “اليوم المجيد” ملوّحًا بأن اليد التي ستمتدّ على السلاح ستُقطع !!.
تحوّل “السلاح” إلى مادة خلافية حادة بين اللبنانيين، رغم أن الجميع يدرك العمق الحقيقي لهذا السلاح وارتباطاته الإقليمية، وتصدّر طويلًا السجالات اللبنانية، وتقدّم على الكثير من العناوين الأخرى، التي تم ربطها به تحت شعارات “حصرية السلاح” بيد الدولة، “حصرية قرار السلم والحرب”، “فائض القوة”، لكن قيادة الحزب لم تُعر هذه المواضيع أي إهتمام، وظلّت بعيدة كل البعد عن التلاقي مع اللبنانيين في المنتصف لإيجاد حل حقيقي ودائم لهذا العقدة .
المرّة الوحيدة التي كانت مدخلًا ولو ضيّقًا للحل عرفناها في “إعلان بعبدا”، وتملّص الحزب منها بعد تورطه بالحرب السورية، وتعمّق موضوع السلاح أكثر في “الفالق المذهبي” الذي ضرب المنطقة بالطول والعرض، لاسيما بعد التطورات التي طرأت على الساحة اللبنانية إثر الحرب الأخيرة، بشكل لم يعهده الحزب، لجهة انتقال الدولة بمؤسساتها الرسمية إلى تبنّي مطلب “حصرية السلاح” ونزعه بما يخدم مصلحة الدولة اللبنانية أولًا وأخيرًا، ونهاية ما كان يُعرف بالمعادلة الذهبية “جيش وشعب ومقاومة”.
جديدٌ آخر طرأ على المشهد اللبناني، يتمثل في انتقال الجدل حول “السلاح” إلى داخل حزب الله و”الثنائي الشيعي” والبيئة الاجتماعية الحاضنة، فما كان يقال بالأمس، همسًا وعلى الهوامش، بات يقال اليوم، علنًا من دون مواربة أو خفاء للأسئلة المكتومة من قبل، أخرجتها الحرب ونتائجها المروّعة إلى العلن، خصوصًا مع تفاقم مأزق “فراغ القيادة” الذي خلّفه رحيل القائد الكاريزماتي للحزب “والمحور” معًا، السيد حسن نصرالله.
تسليم بالأمر الواقع
لم يعد يُجدِ نفعًا الحديث عن معادلات من هنا أو هناك لإبقاء السلاح، فلا الحربُ هي المفتاح للحل، ولا التطبيعُ هو الآخر مسارًا للحل، وبات على القيمين في الدولة والحزب معًا التوصّل إلى نقطة التقاء للخروج بمسار واضح لوضع حل نهائي لمسألة السلاح بكلّ أشكاله وأنواعه وحامليه، سواء سلاح حزب الله أو السلاح داخل المخيمات الفلسطينية، ولم يعد يُنظر إليه بوصفة مسلّمة من المسلّمات وواحدة من الثوابت الداخلية .
خرج السلاح من بعده الإقليمي أولًا، ثم سقطت ركائزه الثلاثة، الردع، الحماية والتحرير، التي كانت توفّر له “شرعية” البقاء، وتخلقُ له “شماعة” التمسّك به، خصوصًا بعد الحرب الأخيرة بحيث ظهر عاجزًا عن تحقيق مثلث البقاء، نتيجة للدمار الهائل الذي طاول البنية الأساسية للحزب والبنية الرئيسية لبيئته، من الجنوب إلى الضاحية والبقاع، وبات لزامًا على الحزب أن يعود إلى كنف الدولة لإزالة آثار العدوان، وهذا لن يتحقق إلا بحلٍّ جذري لمسألة السلاح .
يستشعر حزب الله المأزق الذي بلغه في خياراته، خصوصًا أن العدو الاسرائيلي لم ينفك عن توجيه ضرباته منذ التوقيع على اتفاق وقف النار، واستمراره في استنزافه ماديًا وبشريًا، عدا تداعيات هذه الاستباحة على روح ومعنويات بيئته الشعبية، وتفضي إلى تآكل متسارع في منسوب الثقة بالحزب وسلاحه، موقعه ودوره، وأن قيام الحزب بالرد على الغطرسة الإسرائيلية المتمادية، ليس من شأنه سوى إشعال فتيل حرب جديدة، ستُمارس خلالها آلة الحرب للعدو الإسرائيلي أعلى درجات “التوحّش”، بل ربما بتشجيع من أطراف محلية وعربية ودولية، تريد لمهمة استئصال الحزب وسلاحه أن تكتمل، وعلى الحزب أن يرضخ للأمر الواقع .
وإذا كان حزب الله قد نجح بعيد حرب 2006، بالتعاون مع الحكومة اللبنانية، في إدارة معركة “جهاد البناء”، متوفرًا على ما يكفي من موارد من حلفائه، بالذات إيران، وفي ظروف لبنانية وإقليمية ودولية مواتية، فإن الحزب يقف اليوم عاجزًا عن إنجاز المهمة بقدراته الذاتية، أو بالاستناد إلى حلفائه، الذين تقطعت بهم سبل الوصول إليه وإمداده، ومشروعية إعادة الإعمار تكمن في مساحة محدودة الحركة بالنسبة له، هذه المعضلة، إن طالت واستطالت، فستخلق أزمة بين الحزب وبيئته، وستطعن في صدقية وعود التعافي والتعويض وإعادة الأعمار التي قطعها لجمهوره.
لذلك فإن المشهد اليوم، مختلفٌ تمامًا عمّا كان عليه قبل عشرين عامًا، وعلى الحزب أن يختار بين بقاء الحزب وسلاحه معًا أو بقاء الحزب سياسيًا بلا السلاح أو إندثار الإثنين معًا .